حققت لوحة “درس القرآن” للفنان التركي عثمان حمدي بك مبلغ 4.640.100 جنيه استرليني عند عرضها للبيع في مزادات سوذبيز في لندن، متفوقة على العديد من اللوحات التي رسمها فنانون استشراقيون أوروبيون عرضت للبيع ضمن ما يعرف بمجموعة نجد في المزاد نفسه.
وقد تفوق حمدي بك بذلك على مبيعات لوحات أستاذه الفنان الفرنسي، جان ليون جيروم، الذي عرضت مجموعة من لوحاته للبيع ضمن المجموعة نفسها وبيعت إحداها وهي لوحة “فرسان يعبرون الصحراء” بمبلغ 3.135.000 جنيه استرليني.
كما حققت لوحة اخرى هي “سوق في يافا” للفنان الألماني غوستاف باورنفيند رقما قياسيا عند بيعها بمبلغ 3.728.900 جنيه استرليني (نحو 4.3 مليون يورو)، متجاوزة تخمينات المزاد التي كانت تترواح بين مليونين ونصف وثلاثة ملايين ونصف مليون جنيه استرليني.
تنافس
وتكشف هذه المبيعات عن عودة واضحة للاهتمام بالفن الاستشراقي، في ظل تنافس واضح في منطقة الشرق الأوسط على شراء هذه اللوحات وعرضها في متاحف المنطقة، كما هي الحال مع متحف لوفر أبو ظبي أو هيئة المتاحف القطرية.
ويشير كلود بينينغ، رئيس قسم الفن الأوروبي في القرن التاسع عشر في دار سوذبيز إلى أن نحو 75 في المئة من الأفراد أو المؤسسات التي تقبل على شراء الفن الاستشراقي تأتي من الدول الإسلامية.
ويأتي ذلك على الرغم من أن سوق الفن الحديث والمعاصر في منطقة الشرق الأوسط قد شهدت انخفاضا بنسبة 19 في المئة في العام الماضي عن معدلها في العام السابق له، بحسب تقرير مؤسسة “أرت تكتيك” المتخصصة بدراسة وتحليل الأسواق الفنية.
ويتزامن هذا الاهتمام مع موجة اهتمام بفنون العالم الإسلامي، أثارها المعرض الواسع الذي يقيمه المتحف البريطاني حالياً “تحت عنوان “مُستلهم من الشرق” عن أثر العالم الإسلامي في الفن الغربي، ويتواصل عرضه حتى مطلع العام القادم.
مجموعة نجد
عرضت مزادات سوذبيز للبيع أكثر من 40 لوحة من ما يعرف بـ “مجموعة نجد” للفن الاستشراقي، وهي ما تعد أكبر مجموعة من هذه اللوحات تعرض للبيع مرة واحدة.
وتضم المجموعة الكاملة نحو 155 عملا من أعمال الفنانين الاستشراقيين جُمعت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ويقف وراء جمعها جامع التحف الفنية وصاحب غاليري “المتحف” في لندن، بريان ماكديرموت (1930 – 2013)، بيد أن ملكيتها اليوم تعود إلى رجل أعمال ثري من الشرق الأوسط ( لم يكشف عن اسمه).
لقد استشرف ماكديرموت منذ السبعينيات الأهمية المستقبلية للفن الاستشراقي لمنطقة الشرق الأوسط، المتعطشة لأي وثيقة عن ماضيها البعيد أو القريب، فشكلت تلك اللوحات التي رسمها فنانون غربيون زار كثير منهم المنطقة سجلا بصريا في زمن لم يكن التصوير الفوتغرافي قد انتشر في المنطقة.
ويقف ماكديرمونت في كفة أخرى على النقيض من المفكر إدوارد سعيد، الذي وجه في الفترة نفسها نقدا شديدا للاستشراق بوصفه خطابا ارتبط بنمو الاستعمار الغربي والمركزية الأوروبية وبمحاولة الغرب فهم الشرق بغرض السيطرة عليه وحكمه، أو كما يصفه سعيد في كتابه الاستشراق بأنه “الفرع المعرفي المنظم تنظيما عالميا الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبر الشرق، بل وحتى أن تعيد انتاجه، سياسيا واجتماعيا وعسكريا وعقائديا وعلميا وتخيليا في مرحلة ما بعد (عصر) التنوير”.
وإذا كان سعيد قد ركز على النصوص الاستشراقية إلا أنه اطلق موجة واسعة من الانتقادات طالت الفن الاستشراقي والتمثيلات المرئية للشرق في الفنون الغربية، التي وجد الكثيرون ضمن هذا الاتجاه أنها قدمت شرقا متخيلا استند إلى صور نمطية في المخيال الغربي عن شرق غرائبي وشهواني وغامض ومثير وممتلئ بالجواري والحريم.
وعلى العكس من هذه النظرة، كان ماكديرمونت يرى أننا ينبغي أن نحاكم الفنان الاستشراقي في سياق الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة به وليس وفق وجهة نظر أيديولوجية لاحقة تبحث في أعماله من منظور مدى صوابها سياسيا، بحسب تعبيره.
لقد ارفق ماكديرموت فهمه هذا بذكاء تجاري جعله لاحقا أبرز من استثمر في الفن الاستشراقي وأعاد تحفيز سوقه الفنية التي ضمرت في أعقاب ذروة ازدهارها في القرن التاسع عشر. وقد أشار قبيل وفاته في عام 2013 إلى أنه كان يشتري لوحات لفنانين استشراقيين كبار من أمثال جيروم بمبلغ لا يزيد عن 15 ألف جنيه استرليني، وتصل قيمتها اليوم إلى ملايين.
وتعد “مجموعة نجد” أكبر مجموعة شخصية من اللوحات التي رسمها فنانون أوروبيون زاروا مناطق في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وقد أخذت تسميتها هذه بين دارسي الفن وجامعي التحف واللوحات الفنية بعد نشر كتاب كارولين جولير بالاسم نفسه في عام 1991 .
وتضم المجموعة أعمال 44 فنانا استشراقيا، بيد أن نحو نصفها يقتصر على ثلاثة فنانين أساسيين، هم جان ليون جيروم والنمساويان لودفيغ دويتش ورادولف إرنست.
عثمان حمدي بك
تشهد سوق الأعمال الفنية اهتماما ملحوظا بأعمال الفنان التركي عثمان حمدي بك (1842 – 1910)، ويرجع هذا الاهتمام إلى ندرتها (لم يكن حمدي بك غزير الانتاج)، وتصاعد الإقبال عليها في بلده تركيا الذي يعد أعماله ثروة قومية ينبغي الحفاظ عليها، فضلا عن اهتمام متاحف الفن الإسلامي الأخرى باقتنائها.
وباتت لوحة “درس القرآن” (1890) ثالث عمل لحمدي بك يُعرض للبيع خلال شهر واحد، وهو ما يعد حدثا نادرا، إذ حققت لوحته “قارئة القرآن” المرسومة في عام 1880 رقما قياسيا في مبيعات لوحاته بلغ نحو 6.7 مليون جنيه استرليني (مع أجور المزاد) عند عرضها في مزاد دار “بونامز” الشهر الماضي.
وقد اشترى هذه اللوحة متحف الفن الإسلامي في ماليزيا، وهي مُعارة حاليا للعرض في المتحف البريطاني ضمن معرض “مستلهم من الشرق” حتى مطلع العام المقبل.
وقد عرض مزاد دار “دوروثيم” في فيينا الأربعاء لوحته “سيدة تركية من اسطنبول” (1881) للبيع بقيمة قدرت بين مليون ونصف إلى 1.880.000 يورو، وهو ما يقل كثيرا عن المبلغ الذي بُيعت به في عام 2008 وكان 3.4 مليون جنيه استرليني.
روح شرقية بأسلوب غربي
تكمن أهمية حمدي بك في أنه أحد الرواد الأساسيين في الفن الإسلامي الذين تبنوا الرسم بالأسلوب الغربي، وأول رسام تركي يتبنى الرسم بهذه الطريقة.
ولم يكن حمدي بك رساما متفرغا بل موظفا في الإدارة العامة العثمانية، تنقل في مناصب مختلفة فيها، وتميز باهتماماته المتعددة فهو حقوقي وعالم آثار ومدير لعدد من المتاحف ومعماري ورسام وموسيقي وشاعر وأحد رموز الثقافة الحديثة في أواخر الدولة العثمانية.
ولد عثمان بك في اسطنبول عام 1830 وأرسله والده إبراهيم أدهم باشا (وهو من أصول يونانية ومن أوائل مهندسي التعدين في الدولة العثمانية تدرج في المناصب حتى أصبح الصدر الأعظم للدولة “رئيس الوزراء”) إلى باريس لدراسة الحقوق، لكنه استثمر وجوده هناك ليدرس الرسم أيضا على يد الفنان والنحات الفرنسي غوستاف بولانجيه، وكان قد دخل إلى ورشته كموديل رسمه في بورتريهين شهيرين حملا اسمه قبل أن يعود تلميذا لديه بعد عام من رسمه.
كما تأثر كثيرا بالرسام الاستشراقي جيروم، الذي درس أعماله الأكاديمية في مدرسة الفنون الجميلة في باريس منتصف ستينيات القرن التاسع عشر حيث كان جيروم استاذا في هذه المدرسة.
وكانت أولى وظائف حمدي بك بعد عودته من باريس إدارة شؤون الأجانب في بغداد، إلى جانب الوالي والسياسي الإصلاحي ذي النزوع التحديثي، مدحت باشا، الذي أصبح رئيسا للوزراء لاحقا في الدولة العثمانية ورائدا للتحديث فيها. تنقل بعدها في مختلف الوظائف قبل أن يكلفه السلطان عبد الحميد الثاني عام 1881 بإدارة المتحف الإمبراطوري في اسطنبول.
وقد أسس دار صنائع نفيسة (أكاديمية الفنون الجميلة) في اسطنبول، وعددا من المتاحف التركية الكبرى مثل المتحف التركي المعاصر ومتحف اسطنبول الأثري.
وعمل حمدي بك في مجال التنقيبات الأثرية ويعود له الفضل في الوقوف وراء التشريعات التي نظمت العمل الآثاري. ومن أعماله في هذا الحقل حفريات مقبرة ملك صيدا بلبنان، حيث اكتشف ما يعرف بالتابوت الحجري للاسكندر في عام 1887.
يحرص حمدي بك في رسوماته على المزواجة بين أسلوب الرسم الغربي والموضوع والتقليد الشرقيين، حتى حقت تسميته لدى الكثيرين بأنه الجسر الذي حاول ربط الشرق والغرب في فن الرسم في أواخر الدولة العثمانية، إذ واصل في أعماله تَرسم تقليد الرسم الأكاديمي الفرنسي الذي نشأ في أكاديمية الفنون الفرنسية تحت تأثير نزعتي الكلاسيكية الحديثة والرومانتيكية، بيد أنه كان يحرص أن يضفي عليها روحا شرقية خالصة في التفاصيل التي ينثرها في لوحته.
وهكذا ترى لوحته مصممة بدقة، وتمتزج فيها عناصر مختلفة: واقعية ومتخيلة، يحرص فيها على أن ينثر أكبر كمية من العناصر التي تعبر عن خصوصية بلاده كالتفاصيل المعمارية لأماكن معروفة في خلفية اللوحة، أو عناصر أخرى كالسجاد والأزياء والملابس والرياض وقطع السيراميك والخطوط العربية والزخارف الإسلامية.