الفيلسوف في حضرة الطاغية…العلامة ابن خلدون يلتقي تيمورلنك

أنحنى الشيخ الجليل مستسلما وقَبّل اليد التي مدها الرجل المتكيء على ساعده في الخيمة القريبة من سور مدينة دمشق. حدث هذا عام 1401 ولم يكن ذلك الشيخ سوى «أبن خلدون» القاضي والسياسي والمبعوث الملكي وأعظم علماء عصره. وأما الرجل الآخر، فكان القائد المغولي «تيمورلنك» الذي نجح في محو الدول المتحضرة تباعا بقسوة لم تعرفها البشرية من قبل، وسببت غزواته مقتل سبعة عشر مليون شخص، أي ما يعادل خمسة بالمئة من سكان العالم آنذاك. ولكن لهذا اللقاء قصة مثيرة للأهتمام.
كان «أبن خلدون» دائم التنقل بين بلدان شمال أفريقيا، في عصر كان التنقل فيه أمرا صعبا، حيث وجد الترحيب الحافل من قبل أغلب الملوك والأمراء. وانتقل في نهاية القرن الرابع عشر الى مصر التي كانت آنذاك تحت حكم المماليك. وتم تعيينه من قبل حاكم مصر، السلطان الظاهر سيف الدين برقوق (أول السلاطين الشركس في مصر الذي ولد في جنوب روسيا لعائلة غير مسلمة وجلب ألى مصر كمملوك) في عدة مناصب هامة، وكان منها قاضي المذهب المالكي. ولكن أخبارا مقلقة وصلت ألى مسامع السلطان الأبن مفادها أن كان القائد العسكري المغولي «تيمورلنك» يقترب من دمشق بعد أقام مذابح هائلة في العراق وجورجيا وأرمينيا أدت ألى أفراغ مناطق من سكانها. وكانت دمشق آنذاك ضمن دولة المماليك في مصر، فبدأت الأستعدادات على الفور للتوجه نحو سوريا لأيقاف التقدم المغولي. وقررت القيادة المملوكية أن يصطحب الحملة بعض أشهر علماء مصر، وشمل هذا «ابن خلدون» نفسه الذي وافق على الرغم من رفضه لهذه الفكرة. وتوجهت الحملة المملوكية نحو دمشق سريعا لأن الجيش المغولي كان قد غادر معسكره في بعلبك قاصدا المدينة.
وصل الجيشان المدينة في أوقات متقاربة وعسكر الجيش المملوكي في سهل بالقرب من دمشق بينما عسكر المغول عل تل يشرف على ذلك السهل. ولكن «تيمورلنك» وجد نفسه في وضع غير مناسب، فالمدينة جيدة التحصين والجيش المملوكي لم يكن سيئا. وأثبتت الأشتباكات المتفرقة التي حدثت بين الجانبين أن أنتصار المغول لن يكون سهلا. ولكن مفاجأة غيرت الموقف، فبعد شهر من هذه المواجهة العقيمة وفي يوم الجمعة الموافق الأول من شهر كانون الثاني/ يناير عام 1401 أختفى الجيش المملوكي من الميدان. وكان ذلك الأنسحاب مباغتا وغير منظم نظرا لوصول معلومات أستخباراتية الى السلطان المملوكي مفادها أن بعض الأمراء يحيكون مؤامرة في مصر للأطاحة به. وكان وقع هذه المعلومات كبيرا الى درجة أن السلطان ترك دمشق وكبار العلماء الذين أصطحبوه من مصر يلاقون مصيرهم المحتوم، ومنهم «ابن خلدون».

ضمانات

عرف المغول بملاحقة الجيوش المنسحبة وقتل أكبر عدد من الجنود أثناء ذلك، ولم تكن هذه المرة أستثناء حيث طاردوا الجيش المملوكي وأعتقلوا أحد كبار رجال الدين المصريين واقتادوه الى «تيمورلنك» ثم حاصروا مدينة دمشق مثيرين حالة من الرعب بين سكانها، فقد سمع الجميع بما يفعله المغول بأعدائهم. وانقسم كبار رجال المدينة الى فريقين، أراد الأول عقد اتفاق مع «تيمورلنك» بينما فضل الآخر (مدعوما من قبل قائد حامية المدينة) المقاومة. ولذلك قرر الفريق الأول التوجه ألى «تيمورلنك» لجس النبض والحصول على الممكن، ولكن قائد الحامية رفض فتح أحد أبواب المدينة للسماح لذلك الفريق بالخروج، ولذلك تم انزال أعضاء الفريق بالسلال من على سور المدينة. ولم يخيب «تيمورلنك» آمال هؤلاء، أذ وعدهم بالأمان في حالة أستسلامهم. ومع ذلك لم يوقف ذلك الجدال القائم بين رجال النخبة في المدينة، فقام الجانب المعارض بزيارة مماثلة وحصل على ضمانات خطية من القائد المغولي تضمن سلامة أرواحهم وأعراضهم وأملاكهم. وعندما عاد هذا الوفد أبلغ أحد أفراده «ابن خلدون» أن «تيمورلنك» قد سأل عنه وعبر عن رغبته لرؤيته. وتملك الخوف العالم الكبير، فالمدينة ساقطة لا محالة ومصير الجميع مجهول. وعلى الرغم من قضاء «ابن خلدون» حياته بالتعامل مع أشهر قادة الشرق الأوسط من العرب والشركس والبربر كمستشار أو مبعوث خاص أو وزير وأصبحت خبرته في التعامل معهم متعمقة، فأنه أدرك أن «تيمورلنك» كان شخصا مختلفا تماما، أذ فاق الجميع بقسوته وعدم أحترامه لأية قيم حضارية بمراحل، ولذلك كان العالم الكبير في أمس الحاجة ألى كل خبرته ومهارته لذلك اللقاء. وبالتالي، وبعد نقاش طويل مع أصدقائه، قرر المخاطرة والتوجه نحو ذلك القائد المرعب. وتم أنزال العالم من فوق السور، وما أن حطت قدماه على الأرض حتى وجد نفسه أمام بعض الجنود المغول وأحد كبار معاوني «تيمورلنك» فألقى التحية عليهم بأدب بالغ وكان ردهم مماثلا، وأرسلوه مع أحد الجنود للقاء «تيمورلنك».
كان واضحا ل”ابن خلدون» أن ما عرفه عن «تيمورلنك» كان صحيحا، فهو يختلف عن جميع القادة الشرق أوسطيين الذين عرفهم حيث فاقهم تكبرا وأجراما واحتقارا لمن حوله، وقرر «ابن خلدون» أن يجاري «تيمورلنك» ويرضي غروره الرهيب بكل ما لديه من مهارة، فقد كان يعلم أن العالم المصري الذي القى المغول القبض عليه عند انسحاب الجيش المملوكي قد تم أعدامه بطريقة بشعة، وقبَّل «أبن خلدون» يد «تيمورلنك» وحاول جهده عدم أزعاجه. وبسبب انعدام لغة مشتركة بين الأثنين، أمر «تيمورلنك» بأحضار أحد مشاهير رجال الدين في سمرقند (عاصمة «تيمورلنك) الذي كان يتقن العربية للترجمة بين الأثنين. ولم يشمل اللقاء محادثة بين «تيمورلنك» و«ابن خلدون» بل أستجوابا مهينا من قبل القائد المغولي الذي لاحظ ملابس «ابن خلدون» الغريبة، وعلل العالم الكبير ذلك بكونه من شمال أفرقيا. وهنا سأله «تيمورلنك» عن كل ما يعرفه عن تلك المنطقة، ولكنه لم يقتنع بأجابات «أبن خلدون» فأمره بكتابة تقرير كامل عن المنطقة يجعل القاريء يعرف المنطقة وكأنه قد زارها بنفسه. وكان من الواضح أن «تيمورلنك» أراد ذلك التقرير كي يستفيد منه في حالة رغبته في أحتلال شمال أفريقيا. وحاول «تيمورلنك» أستعراض معرفته التاريخية أمام «ابن خلدون» الذي لم يعترض فحسب، بل أنه وصف القائد المغولي بأعظم الأوصاف ألى درجة الأدعاء أنه كان ينتظر هذا اللقاء منذ عشرات السنين حيث تنبأ المنجمون بقدومه. ووصلت أثناء اللقاء أخبار فتح باب مدينة دمشق حيث قرر كبار رجال المدينة الأستسلام الكامل على الرغم من أعتراض قائد الحامية الذي أنسحب مع جنوده الى قلعة المدينة. ودخل المغول المدينة وبدأت معركة عنيفة لاقتحام القلعة دامت لعدة أيام وانتهت باقتحامها. وأما الضمانات الخطية التي أصدرها «تيمورلنك» لسكان المدينة حول أرواحهم وممتلكاتهم، فلم تعنِ شيئا حيث أستولى «تيمورلنك» على جميع أموال الحكومة المحلية وأمر جنوده بنهب كل منزل في المدينة. وقام الجنود المغول بهذا بكل مهارة وقتلوا الآلاف من سكان المدينة وأغتصبوا النساء لمدة ثلاثة أيام، ثم جمعوا كل ما لا يمكن الأستفادة منه وحرقوه في المدينة مسببين حريقا هائلا أمتد ألى أنحاء مختلفة من دمشق وحتى المسجد الكبير. ولا تتوفر الكثير من تفاصيل أعمال «تيمورلنك» في دمشق ولعلها لم تختلف عما فعله جنوده في حلب، التي أحتلها قبل دمشق بعام واحد، حيث هرب السكان الى الجوامع عند أقتحام المغول للمدينة. وهناك قام الجنود المغول بعزل النساء عن الرجال واغتصابهن بشكل متواصل. وكان أزواج وآباء وأخوان هؤلاء النسوة يتعرضن لتعذيب شنيع صاحبه أجبارهم على مشاهدة النسوة وهن يتعرضن للأغتصاب الذي أستمر لعدة أيام، وبقيت النسوة عاريات طوال هذه الفترة. وحاول الجنود المغول قتل أكبر عدد من الأطفال وبنوا كومة من عشرين ألف جمجمة. وقد دون الكاتب العربي الشهير «أبن عربشاه» تفاصيل مذبحة حلب بدقة لأنه كان شاهد عيان، ولحسن الحظ أنه لم يقتل على يد المغول، فسنحت له الفرصة لكتابة ما حدث.

رحلة شاقة

ألتقى «ابن خلدون» بالقائد المغولي عدة مرات في هذه الفترة، وقام خلالها بتسليم التقرير حول شمال أفريقيا. ولكن «تيمورلنك» فاجأه بطلب غريب حيث كان لـ«ابن خلدون» بغل رمادي أراد «تيمورلنك» شراءه مثيرا أستغراب العالم الكبير الذي قال أنه لا يبيع شيئا لشخص مثله، فابلغه «تيمورلنك» أنه سيكون كريما معه وأخذ البغل. وطلب «ابن خلدون» الأذن بالعودة الى مصر، ولحسن حظه وافق القائد المغولي، وبعد خمسة وثلاثين يوما من اللقاء الأول غادر دمشق غير مصدق وعائدا ألى القاهرة في رحلة شاقة تعرض خلالها الى السلب وصعاب أخرى.
لم تعاقب السلطات المملوكية في مصر «أبن خلدون» بتهمة التعاون مع «تيمورلنك» وأبلغته بعد فترة بوصول ثمن البغل الرمادي من «تيمورلنك» ولكن العالم الكبير رفض أستلام المبلغ بدون موافقة السلطات. وفي نهاية المطاف، وبعد أنتظار طويل، أستلم المبلغ ناقصا. وكان قد كتب ألى حكام تونس البربر تقريرا كاملا عن ما دار بينه وبين «تيمورلنك» حيث حرص على تقوية علاقته بهم، وكانت زوجته أبنة أحد كبار القادة العسكريين البربر.
لم تنته مشاكل «أبن خلدون» حيث أتهم بعد ذلك بالأنضمام ألى تنظيم سري يدعو ألى أصلاحات في الدولة وأعتقل لفترة قبل أن يطلق سراحه وتتناسى السلطات هذه الحادثة. وفي نهاية المطاف تم تعيينه قاضيا بعد ذلك وتوفي عام 1406 بعد ذلك بشهر.
يصعب اعطاء «ابن خلدون» حقه للدور الذي لعبه في تطور العلوم والفلسفة في تاريخ البشرية حيث تفوق على كل من سبقه من الفلاسفة مثل أرسطو وسقراط وكبار المؤرخين. ويعتبر مؤسس علمي الأجتماع (أطلق عليه أسم علم العمران) والعلوم السياسية، وبذلك فقد سبق المفكر الأيطالي الشهير ميكيافيللي. وكان كذلك أكبر مؤرخي عصره حيث حاول جهده أن يكون معقولا ودقيقا في تدوينه لأحداث عصره، وحاول تحليل الأحداث التاريخية بطريقة واقعية ومتعمقة آخذا بنظر الأعتبار تأثير الجوانب الأقتصادية والفكرية والسياسية على تطور المجتمع، ولذلك يعتبر أول مؤرخ حديث. وقد ساعده في ذلك كونه شهد بعض أهم أحداث عصره وكان مقربا من بعض أشهر القادة والملوك في عصره. ويعتبر كتابيه مقدمة «ابن خلدون» و«كتاب العبر» من أعظم الكتب في تاريخ الثقافة العالمية. وقد لمع نجمه بقوة بين الفلاسفة والمؤرخين الأوروبيين في القرن التاسع عشر وحتى الآن ألى درجة أن الرئيس الأمريكي «رونالد ريغان» تكلم عن نظرية «ابن خلدون» الأقتصادية لأثبات صحة سياسة الحكومة الأمريكية الأقتصادية في خطاب شهير له يوم الأول من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1981.
يسخر البعض من تصرف «ابن خلدون» مع ”تيمورلنك» ويصفوه بالتملق المبالغ به، ولكنهم في ذلك لا يقدرون موقف الرجل الذي كان مصيره بيد شخص قتل الملايين بكل فخر. وينسى هؤلاء كذلك التملق الذي قام به المفكر والفيلسوف الأيطالي الكبير ميكيافيللي لعائلة مديتشي في كتابه الشهير «الأمير» ليس لأنقاذ حياته، بل كي يحصل على عمل منهم. ولم يكن «ابن خلدون» يطلب عملا من «تيمورلنك» بل محاولا الأبقاء على حياته، فالقائد المغولي كان قادرا على أنهائها لأتفه الأسباب، وقد أثبت التاريخ ذلك.
لم يكن «تيمورلنك» غبيا، بل قائدا عسكريا فذا برع في أستخدام الوسائل المتاحة له ومخادعا غير عاديا ضاربا بعرض الحائط أي أعتبار أنساني أو متحضر. ولم تكن وعوده بالأمان أو التحالف أو الصداقة سوى خدعته كي يأتمنه الآخرون حتى ينقض عليهم بسرعة خاطفة. وأعتمد «تيمورلنك» على مهارته في أيجاد نقطة الضعف في أعدائه والقسوة البالغة التي أرعبتهم، وأستخدام الفرق العسكرية لحلفائه، بالأضافة ألى الخبراء العسكريين من المناطق التي اقتحمها لصناعة ما يحتاجه من معدات. ولهذه الأسباب كان الكثير من الأجانب في قواته العسكرية. و أعتمد دائما على من يساعده من الخونة في معسكر أعدائه واتبع سياسة فرق تسد. ولم ينقذ العالم من «تيمورلنك» سوى وفاته عام 1405 وسرعان ما بدأت أمبراطوريته بالأنهيار، أذ دخل أبناؤه في صراع دموي كلفهم الكثير.

زيد خلدون جميل : باحث من العراق

Nobles News