| شمس الدين العجلاني
من يقلب صفحات تاريخ المرأة السورية، لا بد له من الوقوف مطولاً عند اسم مثقفة سورية وناشطة اجتماعية وسياسية وبرلمانية، توزع نشاطها على العديد من المجالات الإنسانية والوطنية عربياً ودولياً، عملتْ في أكثر من ميدان، ووصلت إلى الريادة في ميادين متعددة في الصيدلة والاقتصاد والسياسة، والتأليف والنشر والترجمة، إضافة لغنى أعمالها الوطنية والاجتماعية التي تجلت في مساهماتها بحركات التحرر النسائي، وفي عملها التطوعي في الجمعيات الخيرية، مثلت صوت حق للمرأة السورية في المحافل الدولية والعربية، وكانت أول من حصلت على شهادة الصيدلة وأول من حصلت على شهادة دكتوراه في الاقتصاد السياسي. وبذلك خطت اسمها بماء الذهب في سجل السوريات..
إنها الدكتورة «نجاح الساعاتي» التي كانت ولا تزال من أهم الشخصيات العربية على صعيد النشاط النسائي، والتي رحلت في الأيام السابقات بصمت وهدوء!؟
في الخامس عشر من تشرين الأول عام 1949م شهد مدرج الجامعة السورية حدثاً استثنائياً حين أعلن عريف حفل تخريج طلاب كلية الصيدلة في الجامعة عن نيل أول شهادة في الصيدلة لفتاة سورية هي نجاح الساعاتي… فضجّ المدرج بالتصفيق وقوفاً.. وصدرت الصحف والمجلات السورية تحمل هذا النبأ المفرح، وأشارت إلى أن نجاح الساعاتي كانت أول صيدلانية عربية..
هذا ليس بغريبٍ على الجامعة السورية التي هي أول جامعة حكومية في الوطن العربي. والتي تعود بداياتها إلى عام 1901 م حين أنشئ بدمشق مكتب مدرسة للطب وافتتحت «المدرسة الطبية» في دمشق التي تعد النواة الأولى للجامعة في عام 1903، وضمت فرع الطب البشري وفرع الصيدلة.
ليس غريباً على سورية أن تكون في بداية البدايات ففي دمشق أُسِّس أول مستشفى في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، الذي حكم من سنة (86 هـ/705م) إلى سنة (96 هـ/715م)، وكان هذا المستشفى الذي أنشئ سنة706 م (88 هـ) متخصِّصاً في علاج مرض الجُذام.
و لا ننسى أن أول بيمارستان « كان المشفى قديماً يُسمى بيمارستان» بني في دمشق زمن السلطان نور الدين زنكي في القرن الثاني عشر وكلف آنذاك ثلاثمئة ألف دينار، وهو متحف الطب والعلوم عند العرب.
نجاح ساعاتي كما ذكرنا تخرجت عام 1949 م، في حين تخرجت أول صيدلانية سعودية وهي سميرة بنت إبراهيم إسلام في عام 1982 م من جامعة الإسكندرية! وتخرجت الصيدلانية البحرينية ليلى عبدالرحمن من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1974 م!علماً أن أول جامعة أنشئت في السعودية ( جامعة الملك سعود) عام1957م، وفي قطر عام 1973 م، وفي الكويت عام 1966 م، وفي الإمارات عام 1976..
نجاح الساعاتي
مع الأسف لم تحظ هذه المرأة المتميزة على الصعيد العلمي والسياسي بالاهتمام الواجب علينا، فحين رحلت لم تتناول وسائل إعلامنا المختلفة خبر رحليها ولم يسلط الضوء على مسيرتها النضالية اللهم سوى ما تناولته مواقع التواصل الاجتماعي.
ولدت نجاح الساعاتي يوم 20 كانون الأول عام 1915 م من أسرة ميسورة في مدينة حمص، درست المرحلة الابتدائية في مدرسة الروم الأرثوذكسية ونالت شهادة الكفاءة السورية والفرنسية بدرجة جيدة، ثم انتقلت إلى مدرسة تجهيز دمشق ونالت منها شهادة البكالوريا بدرجة جيدة أيضاً، درست الفلسفة وحدها خارج المدرسة ونالت البكالوريا الثانية في الفلسفة عام1945 م ثم انتقلت إلى الجامعة السورية حيث تخرجت في كلية الصيدلة يوم الخامس عشر من تشرين الأول من عام 1949 م، وكان رئيس الجامعة آنذاك الدكتور منيف العائدي الذي كان أكبر داعم لها ولتطلعاتها.
أتقنت نجاح الساعاتي اللغة الفرنسية بطلاقة ما ساعدها على الاطلاع على الثقافة الفرنسية والترجمة الأدبية والعلمية من أمهات الكتب الفرنسية.
كانت أول امرأة تحصل على شهادة الدكتوراه «من موسكو» في الاقتصاد السياسي وكان موضوع أطروحتها (خصائص تطور الرأسمال الوطني في سورية).
عملت بعد تخرجها لمدة سنة في أكبر صيدلية في حمص، ثم افتتحت لنفسها صيدلية في أول تشرين الثاني عام 1950 م في شارع الحميدية بمدينتها حمص وأطلقت عليها اسم صيدلية النجاح التي لا تزال بهذا الاسم حتى الآن، فكانت أول امرأة تفتح صيدلية في حمص، كما قامت أثناء عملها الصيدلاني بالتدريس في مدرسة تجهيز البنات في حمص…
كانت نجاح الساعاتي أيضاً أول امرأة في حمص تنتخب عضواً في نقابة الصيادلة وأول أمينة سر للنقابة. انتسبت إلى الحزب الشيوعي في سن مبكرة أثناء دراستها الجامعية وتابعت تحصيلها العلمي ونالت شهادة الدكتوراه في الفلسفة.
هي زوجة بدر الدين السباعي، وابنة أديب الساعاتي، لها شقيقة وشقيقان هما صلاح وزياد، لم تنجب أياً من الأولاد بسبب تعرضها في عام 1956م، أثناء العدوان الثلاثي على مصر، إلى إجهاض الجنين الذي كانت حاملاً به وذلك إثر اشتراكها في المقاومة الشعبية وانتقالها إلى حقل التدريب، ما حرمها من الإنجاب بعد ذلك.
ساهمت نجاح الساعاتي في تشكيل رابطة النساء السوريات وعملت في مجلس السلم العالمي وشاركت في مؤتمر الأمهات العالمي الذي نظمه الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي في «لوزان» بسويسرا عام 1955 وانتخبت عضواً في مجلسه، وانتخبت أيضاً عضواً في لجنة الأمهات العالميات الدائمة، وانتسبت إلى جمعية الهلال الأحمر في حمص، وانتخبت عام 1951م عضواً إدارياً فيها، وكانت قد انتخبت عام 1943م سكرتيرة لجمعية إعانة الطالبات الفقيرات في مدرسة التجهيز.
قادت الساعاتي أول تظاهرة نسائية في حمص عام 1942م أيام المحتل الفرنسي، وهي أول من رفع الحجاب في حمص.
كما أسست مع زوجها عام 1956 دار (ابن الوليد) للنشر في حمص، وقامت بعد ذلك بتأسيس دار (الجماهير الشعبية للنشر) في دمشق حيث اهتمت بالكتب التقدمية التي تتناول القضايا الوطنية والاجتماعية، وحين أغلقت الساعاتي دار النشر هذه أهدت كل محتويات الدار من كتب وإصدارات ورفوف وقوائم للحزب الشيوعي السوري الموحد.
كما كان للساعاتي بصمتها المتميزة في مجال الفكر والثقافة، فأغنت المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات والترجمات القيمة زادت على الخمسة عشر كتاباً في مواضيع إنسانية واجتماعية، كما كتبت في العديد من المجلات السورية، مثل مجلة الينبوع، ومجلة المرأة، وجريدة النور.
لقد تولت الساعاتي خلال مسيرتها المعطاء العديد من المناصب السياسية وكانت واحدة من أبرز نساء عصرها.. ويشهد لها أنها قادت أول تظاهرة نسائية في حمص عام 1942م ضد المحتل الفرنسي.
تحت عباءة والدها
كل إنسان ينتمي إلى البيئة التي نشأ بها والحضن الذي رعاه، ونجاح الساعاتي لم تخرج من عباءة والدها أديب الساعاتي الصحفي العريق والمناضل ضد المستعمر الفرنسي.
عائلة الساعاتي من العائلات الحمصية المعروفة بوطنيتها، فوالدها كان من الثوار الذين انتفضوا ضد فرنسا والتحق بصفوفهم من عام (1924-1928)، وعمها سليمان اغتالته سلطات الانتداب الفرنسي ودفنته في قلعة حلب.
عمل أديب الساعاتي في الصحافة الحمصية فأصدر صحيفة «فتى الشرق»، التي كانت من أهم الصحف التي ناوأت المحتل الفرنسي، وبعد تعطيلها عدة مرات قامت السلطات الفرنسية بسحب ترخيصها، فأصدر صحيفة أخرى هي «فتى العرب»، ولم يكن الحال معه أفضل من صحيفة «فتى الشرق»، فقد عطلت فرنسا أيضاً هذه الصحيفة، فاضطر أديب الساعاتي لمغادرة حمص، والعمل في الصحافة الدمشقية.
عضويتها في البرلمان
في الستينيات من القرن الماضي تم تأسيس برلمان جديد بدمشق تحت اسم «المجلس الوطني» وذلك عامي 1965م و1966م واختيرت نجاح ساعاتي عضواً فيه، وكان رئيساً لهذا المجلس منصور الأطرش.
وكان لها دور مميز على صعيد المناقشات والمداولات التي كانت تتم تحت قبة البرلمان، كما كانت عضو لجنة الشؤون العربية والخارجية في المجلس الوطني للثورة، وهي من أهم اللجان البرلمانية.
الوداع
يوم الثلاثاء 14 شباط من هذا العام، عام 2017 م. انتقلت الدكتورة نجاح الساعاتي إلى رحاب رب كريم عن عمر يناهز اثنين وتسعين عاماً قضتها في الهم الوطني والعطاء لسورية، رحلت المفكرة والباحثة والسياسية والمناضلة في صفوف الحركة النسائية السورية والعالمية والتي لعبت دوراً كبيراً في تأسيس مرجعية فكرية وثقافية مهمة، رحلت رائدة من الرائدات السوريات.. رحلت بصمت بعد عطاء كبير للوطن!؟
ودعتنا هذه القامة الوطنية بصمت، ونحن صمتنا عن رحيلها، ولم نسمع أو نقرأ أن جهة ما، رسمية أو شعبية أو أهلية أو حزبية نعتها، اللهم سوى الحزب الشيوعي السوري!؟ كما أننا لم نسمع طوال فترة عمرها المديد عن أخبارها ولم يتم تسليط الضوء على مسيرة حياتها لتكون مثالاً للجيل الشاب بأن للمرأة السورية تاريخاً علمياً وسياسياً مشرّفاً.
و دعتنا الدكتورة نجاح الساعاتي بعد رحلة طويلة من النضال والمقاومة والإبداع والعطاء والتفاني في عشق الوطن، علماً أنها بعد أحداث حمص أقامت في طرطوس بمنتجع شاطئ الرمال الذهبية هي وزوجها، ولكن مدينتها حمص ودعتها وكان مثواها الأخير في مقبرة «تل النصر».
ستبقى ذكراها خالدة في قلوب رفاقها وأصدقائها.. ستبقى ذكراها خالدة على صفحات التاريخ تروي سيرة امرأة سورية عشقت الوطن وخطت اسمها بماء الذهب وقالت: هنا سورية التي ولدت قبل التاريخ.