شمس الدين العجلاني
يقولون عنها إنها السلطة الرابعة.. ويقولون أيضاً إنها صاحبة الجلالة..
وإنها فن الكلمة، ووقعها هو الأقوى من وقع السيف في كثير من الأحيان. وإن الصحافة الجريئة قد تكون أقوى أدوات التغيير والإصلاح وإحقاق الحق إذا كان قلم الصحفي وجرأته في طرح الأمور ينبع من إيمانه بأنه يعمل تحت سقف الوطن.
حرية الصحافة في العالم كله قضية جدلية، ومفهوم مدى الحرية والحيادية والجرأة في طرح الأمور ليس لها مقياس في عالم الصحافة، فكثيراً ما يطرح خلف الكواليس أن لا حرية لأي صحيفة في العالم!؟ أو بالأحرى لا حرية مطلقة، فكل الصحف تحتاج لدعم ما لاستمراريتها، مادي، سياسي، إعلاني، ديني، والكثير من الصحف القديمة والحديثة توقفت وانتهت بانتهاء مموليها سواء أكانوا أفراداً أم جهات داخلية أو خارجية تمول وتدعم بصمت لإيصال وجهات نظرها.. فالمردود المادي لمبيع الصحف لا يمكن أن يغطي بأي حال نفقاتها وضمان استمرارية صدورها، إضافة إلى ما تتعرض له الصحف والمجلات في كل أنحاء العالم من مضايقات وإغلاق وحتى الإحراق في بعض الأحيان.. وتعرض بعض الصحفيين للقتل والاعتقال والاعتداء.
تاريخ صحافتنا
تعيش صحافتنا في هذه الأيام ظروفاً هي الأصعب في تاريخ صحافتنا السورية، وعلى الرغم من كل الاتهامات التي توجه إليها، من الصديق والعدو، لا يمكننا نكران أنها قاتلت في ساحات الوغى واستشهد زملاء إعلاميون أعزاء علينا دفاعاً عن سورية بلاد الشمس.
ولا يمكننا أن ننسى أن صحافتنا في يوم ما كانت رائدة في عالم الصحافة وكان للصحفيين السوريين الفضل الكبير في تأسيس وإصدار الجرائد والمجلات في كثير من بلدان العالم، كما أن بعض الإعلاميين السوريين ساهموا في تأسيس وإنجاح الكثير من الفضائيات العربية.
صدرت في سورية أول مجلة مطبوعة عام 1851م وفي عام 1865 صدر أول قانون مطبوعات، وفي عام 1920 أنشئت مديرية المطبوعات، كما كان يصدر في سورية عام 1920، 31 مجلة و24 جريدة، حيث كان عدد سكان سورية آنذاك نحو مليون ومئتي ألف نسمة. لقد شهدت فتره نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي قفزة نوعية في الصحافة السورية وبلغ عدد الصحف اليومية والأسبوعية عام 1948م خمساً وأربعين صحيفة (وكان عدد السكان أربعة ملايين).
لقد عانت الصحافة السورية عبر تاريخها التعطيل والإغلاق المؤقت وغير المؤقت، تارة لمواقفها الوطنية من الانتداب الفرنسي، وتارة أخرى نتيجة إلغاء دورها السياسي والاجتماعي، كما حصل زمن الانقلابات العسكرية، فمثلا عام 1937م عطلت 113 صحيفة لأجل غير مسمى! وعام 1938 عطلت ثلاث صحف لأجل غير مسمى و13 صحيفة لأجل محدد تراوح بين 3 أيام و3 أشهر، وفي عام 1944م عطلت إلى أجل غير مسمى 15 صحيفة وإلى أجل محدد صحيفتان أما عام 1945 فقد تعطلت 32 صحيفة إلى أجل مسمى، وحين كانت تعطل هذه الصحف والمجلات كان بعض منها يصدر باسم آخر فمثلا مجلة (المضحك المبكي) كانت تصدر باسم (ماشي الحال) حين كان الانتداب الفرنسي يعطلها… ولإنصاف حق الصحف والمجلات يمكننا القول إن تلك الصحف والمجلات اتسمت بين أعوام 1943- 1946 بالإخلاص للروح المتفهمة الواعية لمصالح البلاد الوطنية، ووقفت بالمجمل في صف الحركة الوطنية المناوئة للاستعمار.
خرج المستعمر الفرنسي والبريطاني من سورية في 17 نيسان من عام1946م، وابتدأ عهد الاستقلال، وبدأ بتنظيم وقوننة الصحافة وحددت الأسباب الموجبة لتعطيل الصحف إدارياً، وهي التعرض لرئيس الدولة، التعرض للجيش، التعرض لحرمة ولياقة جهاز الدولة وكرامة المواطنين والدول العربية والأجنبية أو نشر أخبار من شأنها أن تمس بالعلاقات الطيبة بين سورية وتلك الدول.
لم تنعم الصحافة السورية في تاريخها الحديث بالهدوء والاستقرار ولم تنج من مطرقة الرقابة وسندان التعطيل القاهر واستمر قلق حالها إلى أن سقطت شهيدة في الستينيات من القرن الماضي مضرجة بحبر صحفييها.
تعطيل الصحف
بعد بداية عهد الاستقلال عام 1946م بأقل من ثلاث سنوات ابتدأ عصر الانقلابات العسكرية على يد العقيد حسني الزعيم في 30 آذار عام 1949م، ودخلت الصحافة السورية في بداية طريق النهاية، ففي عهد الزعيم تم إغلاق وتعطيل معظم الصحف والمجلات في شتى المحافظات السورية. وفي عهد الزعيم صدر فقط صحيفة حكومية رسمية واحدة عن وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية.
واستمر تعطيل المطبوعات السورية في العهود المتتالية، ففي عهد سامي الحناوي عطلت أهم الصحف والمجلات السورية مثل صحيفة القبس، والفيحاء، والنصر، ومجلة الدنيا.. إلى أن جاء عام 1963 ووجهت الضربة القاضية للصحافة السورية.
شهد منتصف الخمسينيات معركة بين الحكومة السورية والصحفيين نتيجة وضع الحكومة العصي في مسيرة الصحافة، كما كان يدعي صحفيو تلك الأيام، والقصة كما تروى من خلال صحف الخمسينيات تقول، إن الحكومة اعتبرت أن هنالك العديد من الصحف قد تجاوز الخطوط الحمراء، وأضحت لا تفي بالغرض الذي أنشئت من أجله، إضافة لدخول العديد من الأشخاص إلى عالم الصحافة قسراً، لذا وضعت قانوناً جديداً للمطبوعات، ومن جملة بنوده صدور الصحف بست صفحات فقط، ويتضمن أيضاً عدة بنود وضعت بناء على توصية من لجنة الميثاق القومي، تقضي بمراقبة موارد الصحف وسلوكها.
ودارت رحى معركة بين صحفيي سورية وسياسييها المتربعين على سدة الحكم، فالصحافة تتهم البعض بالميل إلى المعسكرات والتعاون مع جهات مختلفة، وعن «الثروات الطارئة التي دغدغت جوانب صناديق بعضهم الحديدية».
ويقول الصحفيون في تلك الأيام: «لا ريب، في أن من حق الرأي العام أن يعرف كل شيء عن خفايا رجال السياسة ورجال الصحافة على السواء». ويضيفون بالقول: «إنهم مستعدون لكشف حساباتهم على الناس إذا كشف السياسيون حساباتهم أيضاً»!.
ورأى الصحفيون وأصحاب الصحف أن قانون المطبوعات الجديد سوف يؤثر على إصدار الصحف ويؤدي لتوقف نصفها عن الصدور بسبب قسوته.
دخل المجلس النيابي زمن رئاسة ناظم القدسي غمار معركة الحكومة والصحافة حين أعلن مسؤول في المجلس، أن البرلمان على استعداد لرصد نصف مليون ليرة للتعويض على الصحف التي يوقفها قانون المطبوعات الجديد.
الحكومة تدعي على الصحف
حسب الصحف الصادرة يوم 27 تشرين الأول من عام 1956م، فقد: «حدد يوم السبت القادم موعداً لصدور الصحف بست صفحات وتطبيق قانون المطبوعات الجديد».
وكان موقف الصحف النهائي من الحكومة التي كانت آنذاك برئاسة صبري العسلي: «الموافقة على تطبيق جميع بنود القانون على وفرتها وكثرة نفقات تطبيقها!» وقال أرباب الصحف آنذاك: «سنزيد عدد المحررين ونقبل بالمراقبة المالية، ونرضى بالعقوبات، ونؤيد ما تطلبه الحكومة من زيادة الاشتراك في نشرات الأخبار، ولكننا لن نرضى عن الصفحات الست، وكل جريدة حرة في الصدور بصفحتين أو بمئة صفحة».
الحكومة أصرت على موقفها بصدور الصحف بست صفحات وأرباب الصحف أصروا على عدم تطبيق قرار الحكومة!
وصدرت الصحف بأحجامها العادية ولم تلتزم بقرار الحكومة، الحكومة لم تغلق الصحف أو تصادرها، إنما أقامت الدعاوى عليها جميعاً، واعتبر ذلك نصراً للصحافة، لأن الدعاوى ستنتهي وستبقى الصحافة.
عود على بدء
لو أردنا الإنصاف قد نقول عن صحافتنا إنها مهنة تختلف عن كثير من المهن لأنها مهنة المتاعب، والسير بين الألغام، والصحافة موهبة والعلم يصقلها، وكما يوجد في العديد من المهن دخلاء ففي الصحافة دخلاء ودعاة ومرتزقون..
وبمقارنة تاريخية بين صحافة أيام زمان واليوم، لا بد أن نقر أننا تراجعنا كثيراً… ولم يعد ذلك التنوع في إصدار الصحف والمجلات على اختلاف اختصاصاتها.. ولكن لا يعني ذلك أن صحافتنا قد غابت عن الساحة الإعلامية العربية رغم كل الضربات التي وجهت إليها.. والآن نراها تستحق الشكر والتقدير في صمودها وقتالها في ساحة معركة فرضت علينا قسراً وتطلبت منا القتال على أكثر من جبهة والإعلام أحد أهم هذه الجبهات حيث قام الإعلام الحربي بجهود كبيرة في توثيق هذه الحرب الظالمة وإيصال الحقيقة إلى الرأي العام ودفع ثمناً لذلك استشهاد خيرة إعلامييه على أرض المعركة.
ويصح القول، إذا كان المقاتل يستشهد مرة واحدة، فالصحفي السوري الآن يستشهد في اليوم خمسين مرة.. أيها القلم قاوم… أيها الحبر لا تجف بين أيدينا، الوطن بحاجة إليك… ونحن قادمون…مقاومون… منتصرون.
الوطن