وافقت السلطات الكنسية الكاثوليكية في مدينة قرطبة بالاندلس في اسبانيا على اعادة الاشارة للصفة الاسلامية لمسجد قرطبة الكبير والذي كان يشار له على انه "كاتدرائية قرطبة" فقط.
ورحب محتجون كانوا يطالبون بهذا التغيير بقرار السلطات الكنسية، وكان هؤلاء يشتكون من ان السياسة التي كانت تنتهجها الكنيسة بالامتناع عن ذكر الاشارة الى المسجد في النشرات والتذاكر في السنوات الاخيرة انما كانت محاولة لطمس تاريخ المبنى الاسلامي علاوة على انها كانت تسبب الحيرة عند السائحين الذين يؤمونه.
وقالت الجمعية الكنسية التي تدير المبنى إنه، وبعد دراسة وتمحيص، وفي مصلحة السياحة، تقرر تسميته من الآن فصاعدا "بمجمع المسجد والكاتدرائية والنصب."
وكان المسجد بني في القرن الثامن الميلادي ابان الوجود العربي الاسلامي في الاندلس، ولكنه حوّل الى كاتدرائية في القرن الثالث عشر بعد انهيار الحكم العربي.
وتدرج منظمة اليونسكو المبنى في لائحة الارث الحضاري العالمي.
موقع جامع قرطبة
يقوم المسجد الجامع في قرطبة فوق بقعة صخرية تقع جنوبي غربي المدينة على مقربة من القنطرة العربية القديمة على نهر الوادي الكبير، وتحيط به الدروب الضيقة من جوانبه الأربعة.
يشغل هذا المسجد مكانة في تاريخ الفن الإسلامي تقارب ما للمسجد الأموي الكبير في دمشق، وهو كما يصفه أحد المؤرخين "اللحظة الأولى للقاء الغرب بالإسلام، وهو واحد من أعظم الروائع في العالم".
وصف مسجد قرطبة
يتألف مسجد قرطبة من الحرم والصحن والمئذنة ويبلغ بعداه 180×135 متراً أي تبلغ مساحته 24300 متراً مربعاً. ويُدخل إلى الصحن المكشوف الواقع إلى جهة الشمال من أحد أبواب المسجد التسعة عشر وكلها من البرونز ويطلق على الصحن باحة البرتقال أو فناء النارنج.
يبدو بناء المسجد كقلعة ذات أسوار وأبراج. بلغ ارتفاع المئذنة 23.5متراً، وقد تهدمت وكانت تعدُّ من عجائب الدنيا. وجدران الجامع سميكة مشيدة من الحجارة.
أما الحرم فيحتوي على صفوف من الأعمدة قدّر ما كان من عددها إبان الحكم العربي بين 1013 و1290 عموداً لم يبق منها إلى اليوم سوى 856 عمود، وهي من المرمر والرخام وحجر اليَشَب والحجر السماقي، تزينها تيجان أعيد استعمالها من أبنية قديمة. ويحتوي الحرم أيضاً على مقصورة رصفت أرضها بالفضة والقاشاني وتعلوها ثلاث قباب مزخرفة. ويعلو محراب المسجد سبع نوافذ تعبيراً عن السموات السبع.
ضم الحرم أحد عشر جناحاً عمودية على الجدار القبلي، ويعد ذلك إبداعاً عربياً متفرداً؛ وقام المعمار بمضاعفة الأقواس رأسياً وذلك بتحميل وسائد التيجان، إضافة إلى الأقواس، جوائز متقاطعة بين أطراف الأقواس فغدت الأقواس المزدوجة تسند السقف ولا يوجد أي جدار بين صفي الأقواس، وهذا ما أدى إلى تعلية سقوف الحمام من دون أن تتعرض الدعامات للانهيار.
بناء جامع قرطبة
استغرق بناء المسجد في شكله النهائي نحو قرنين من الزمن، فقد بدأ العمل في بنائه عام 169هـ/785م في عهد عبد الرحمن الداخل الذي أمر بجلب الأعمدة والرخام له من أربونة وإشبيلية والقسطنطينية، وكانت المئذنة قائمة على واجهة جدار الصحن.
توفي عبد الرحمن الداخل قبل إتمام المسجد فخلفه ولده هشام الرضا (هشام بن عبد الرحمن الداخل) فأتمه وأنشأ منارته الأولى، وفي عهد عبد الرحمن الثاني (ابن الحكم) زيد عدد الأجنحة اثنين من جهة القبلة.
وجدد عبد الرحمن الناصر واجهة جامع قرطبة وهدم منارته القديمة، وأنشأ له منارة جديدة أعلى وأضخم عام 340هـ/951م.
وكانت تلك المنارة مربعة الواجهات ولها أربع عشرة نافذة ذوات عقود وتحتوي على سلّمين أحدهما للصعود وآخر للنزول وفي أعلاها ثلاث تفاحات (كرات ذهبية ضخمة) اثنتان من الذهب والثالثة من الفضة فكانت إذا أرسلت الشمس أشعتها عليها تكاد تخطف الأبصار ببريقها.
ثم زاد الحكم المستنصر بن الناصر زيادة كبيرة في عدد الأجنحة وابتنى المحراب الثالث، وعملت له قبة فخمة زخرفت بالفسيفساء البديعة، واستقدم الحكم من قسطنطينية خبيراً بأعمال الفسيفساء وأرسل إليه قيصر منها قدراً كبيراً، كذلك أنشأ الحكم مقصورة جديدة بها قبة على الطراز البيزنطي، وابتنى إلى جانب المسجد داراً للصدقة وأخرى للوعاظ وعمال المسجد.
وكانت المرحلة الأخيرة من التوسع في زمن الحاجب المنصور، فأقام مسجداً محاذياً لجدران الجامع من الشمال إلى الجنوب روعي فيه التماثل والمطابقة مع البناء الأول القديم؛ ويظهر التصميم الأساسي للبناء الجديد أنه رباعي الأضلاع جميل الأروقة، عالي السقف، ومقسوم إلى قسمين متساويين تقريباً الشمالي منهما فناء والجنوبي حرم للصلاة. وقد استكمل البناء سنة 377هـ/987م.
الميزات الفنية للمسجد الجامع في قرطبة
وأما من حيث الميزات الفنية للمسجد الجامع في قرطبة فإن الجزء الذي أمر ببنائه عبد الرحمن الداخل وأتمه ابنه ينم على إرادة التجديد، فلم تكن الأروقة متصلة فيما بينها وموازية لجدار القبلة، كما في المساجد الأخرى، وإنما كانت عمودية التوزيع على ذاك الجدار، كما في الكنائس القديمة. وقد وُزِّعَت الأقواس المركّبة (حذوة حصان يعلوها نصف دائرة) على أعمدة من الطراز القوطي والروماني وتيجان من طرز متغايرة أيضاً، فتلاقى التقليدان الشرقي والغربي وتمثلت روح الإسلام في ذاك التوازن المدهش لتضفي على المسجد شفافية خاصة وتصيّره حيّزاً لا متناهياً.
وتختص عمارة المسجد الجامع في قرطبة بالتناظر المستقر، وهو عنصر مهم في العمارة الإسلامية، وبغياب أي عنصر مركزي يشدُّ النظر، إضافة إلى الأقواس المركبة وتناوب اللونين الأحمر والأصفر في الحجارة مما يجعل البناء نموذجاً فريداً في تاريخ العمارة.
أما سقف المسجد وجدرانه فقد نقشت عليها آيات من القرآن الكريم وزينت بزخارف مؤطرة، أو بلوحات جدارية زخرفية من الفسيفساء أو من الزجاج المطلي بالميناء، ومنها ما رصّع بالفضة والذهب. وكان المسجد يضاء بمئتي ثريا تحمل سبعة آلاف قنديل من الزيت المعطّر.
أما المحراب فهو تجويف سباعي الأضلاع مطلي بالذهب ومزين بالفسيفساء من الميناء المزجج ومزخرف بقطع من الرخام وبنقوش من الذهب على أرضية زرقاء وقرمزية. ويعلو المحراب رباط من الأعمدة الرشيقة والعقود المزينة. أما المنبر فيعد أجمل منبر في العالم لأنه يتألف من 37000 قطعة من العاج ومن الأخشاب المعطرة النادرة مثل خشب الأبنوس وعود الند والصندل وكلها مطعمة بالجواهر. أما المسامير التي تثبت المنبر فهي من الفضة والذهب.
كان المسجد الجامع في قرطبة مكان عبادة ومركزاً فكرياً غاية في الأهمية؛ لأنه احتوى على مدرسة وعلى مكتبة ضخمة تضم نحو 400000 مخطوطة مجلدة بالجلد القرطبي المزخرف وضعت في متناول الدارسين.