| شمس الدين العجلاني
اليوم يا ولدي هو عيد ميلادك.. اليوم أتممت الرابعة والثلاثين من العمر..
أقف اليوم أمام ضريحك، وقامتي تعانق السماء، فقد منحتني أجمل وأروع لقب يمنح لمواطن سوري في زمن العهر.. في زمن اللصوصية.. في زمن تكالب فيه العربان والعجم والأعراب وشذاذ الآفاق على بلادي..
منحتني يا ولدي لقب أبو الشهيد..
صحيح يا ولدي أنني سميتك يوم ولدت في الثامن من آذار عام 1981 م ثائر وكنت نعم الثائر والعاشق، فلم يبق فلة ووردة وغصن ياسمين إلا وكان صديقك… لم يبق حجر أو زهرة أو ذرة تراب في سورية إلا وتشتاق لقلبك…
اليوم يا ولدي يشتاق العمر لك.. أنام وأصحو على صوت طفلي المدلل، على أمل أن يرد على كلماتي.. أشواقي.. حنيني..
يشهد اللـه يا ولدي أنني بك أكبر، وبك أفخر..
ويشهد اللـه يا ولدي أنني منك أرتشف كأس الحزن في صباح مساء…
يا ولدي أصارحك القول، أنا منذ منَّ اللـه علي بثائر تغيرت جغرافية حياتي.. وعشقي.. وانتمائي.. وأصبحت أقوى على كل المحن، فكيف اليوم يا ولدي أقف فوق كل الأحزان.. كيف أقف أمام ضريحك ولا يلفني السواد..
ضحكتك يا ولدي ترن يومياً على مسامعي: «والضحكة مقاومة».
كلماتك لا تفارقني: «معكم ثائر من دمشق» فهل لم تزل معنا يا ولدي!!
هل هدأت ثورتك بعدما نلت أعلى وأغلى وأقدس شهادة يحلم ويسعى إليها كل سوري وطني ولد من رحم الياسمين ونما وترعرع في أحضان قاسيون وأنجب على ضفاف بردى؟ هل هدأت ثورتك بعدما ارتقيت بقرب «سيد الشهداء» وأنت الآن في رحاب رب كريم؟
يا ولدي كلما جولت مع «ليل حبيبة» سألونني عنك، ليلى.. لبنى.. رزان.. لينا.. رامز.. ماهر.. نضال.. غزوان.. يا ولدي كل الناس يسألونني عنك من غنيّهم إلى فقيرهم، من سادتهم إلى بسطائهم.. لم يبق صبية أو شاب من الساحل أو الجبل أو المدينة أو القرية أو الضيعة إلا ويسألونني عنك، وأنا عاجز عن القول إنك كسرت ظهري.. كسرت كلماتي.. ألبست نفسي ثوباً أسود، لا أعرف كيف أخلعه..
يا ولدي: الموت يكسر أشد الرجال بأساً
اليوم يبلغ ولدي الرابعة والثلاثين من العمر، وبهاؤه يهدل من رهف، وقامته القصيرة غابة عطر وارفة تفوح بأريج الوردة الدمشقية..
أنت يا ثائر ساكن بي.. مثلما يستوطن الماء الغمامة.. ولكن البعد بين الواقع والحقيقة يذبحني على مدار الساعة..
كل صبح أقف أمام صورتك وأقرأ لك الفاتحة، وأعاتبك رغم أنني لم أعاتبك طوال 34 عاماً، ولم أرفض لك طلباً، طوال 34 عاماً حسبي أنني كنت أعلم أنك راحل لجوار الأتقياء والصديقين، شهيداً وعاشقاً:
تدفع ضريبة الدم للثغر الباسم..
تدفع ضريبة الدم لعرائش الياسمين..
تدفع ضريبة الدم للتراب الندي..
تدفع ضريبة الدم للوطن الشامخ..
تدفع ضريبة الدم لتحيا سورية..
تدفع ضريبة الدم لـ«ليل حبيبة»..
يا أمير الحب:
هل تصلك أصوات صلواتنا..
ترانيم صلواتنا..
هل تصلك أصوات أجراس الكنائس الفرحة والحزينة؟
هل تصلك يا أمير الحب، كلمات عذابنا، وقسوة الأيام علينا.. وحكايا لصوص الليل والنهار، وكيف يعبثون بضفائر عشيقتك؟
هل تصلك يا أمير الحب أخبار «حماة الديار» وأنهم يستشهدون في هوى الشام عشقاً وتيهاً؟
ثائر عرف عنه كما يقولون «يحب أن يقلع شوكه بيده» فهو نادراً ما تحدث عن أمه أو أبيه، وأقرب أصدقائه لا يعرفون من هم أهله.. وحين كنت في أثينا عام 2011م، كتبت هنا في صحيفة «الوطن» مقالة تحت عنوان «القاهرة من دمشق.. صناعة دمشق الأساسية هي العروبة» فكتب الثائر على صفحته: «رغم بعد المسافات إلا أنني أتلمس دفء يديك الطاهرة وأتذكر بحرقة المشتاق الثلاثين عاماً التي قضيتها بدفء شمسك التي لن تغرب، هنا «القاهرة من دمشق» صناعة دمشق الأساسية هي العروبة «هي المادة التي نشرها في جريدة «الوطن» السورية البارحة».
والآن يا ولدي أقول لك بعد تلك السنين، إن شمسك أنت لن تغرب اليوم أوغداً ولا بعد حين، ستبقى أيها العاشق الدمشقي.. أيها المقاوم العاشق، يا أمير الحب، ستبقى بسمة ضاحكة في قلوبنا، وقلماً مقاوماً في تاريخنا…. وثائراً من دمشق.
منذ أيام يا ولدي قادتني قدماي مصادفة ومن دون أن أدري إلى صديقك نورس، أتذكره!! إنه صاحب صالون الحلاقة، ورفيقك في درب العشق للوطن، وقال لي إنك في آخر مرة زرته قبل استشهادك بأيام، دفعت له أجرة الحلاقة مرتين، وقلت له هذه الأجرة عن اليوم، وعن المرة القادمة ولكنني لن أحضر إليك في المرة القادمة… لذا يا ولدي قال لي صديقك نورس: أجرة حلاقتك دفعها لك ثائر قبل استشهاده.
أقف اليوم، الثامن من آذار أمام ضريح الشهيد وأقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة، وشريط ذكريات طويل عريض يحضرني وأنا أبكي فرحاً وحزناً، وتوشحني الهموم، وتقهرني الأحزان، من مشفى الطب الجراحي إلى مدفن آل العجلاني ثلاثة وأربعون عاماً مضت، وأنت شهم الهوى، عفيف، رهيف، عطر، مبتسم، مقاوم، عاشق…. شهيد..
أنت الوردة التي تتغذى من التراب ولا تذبل «كم استطيب هذا التراب وكل ساكينيه».. أنت كالشمس واضح.. وكالسيف صارم..
في عيد ميلادك اليوم أنحني أمام عظمة عطائك، وألثم تراب ضريحك، وأسالك الشفاعة.. فكن يا ولدي شفيعنا يوم الدين…
اليوم لن أقول لك وداعاً يا ولدي، بل إلى لقاء قريب.. ونردد معك جميعاً: «لا أجمل من الحياة في هذه الأرض ولا أعبق من امرأة من هذه البلاد، ولا قبر أرحم من هذا التراب.. الفجر لنا.. كن مع الأرض لا عليها..».