لم يخطر في بال أحد من سكّان تل رأس شمرا والذي يقع على بعد 12 كم شمال مدينة اللاذقية قبل عام 1929 م وهو العام الذي تم فيه اكتشاف مملكة أوغاريت أنهم يقطنون فوق حاضرة كنعانية هامة وأنهم يمارسون الزراعة كما مارسها أسلافهم الأوغاريتيون في الألف السابع قبل الميلاد وفق ما تشير الآثار المكتشفة حتى الآن، ليس هذا فقط بل على الأرجح فإن الأغاني والأهازيج التي تصدح بها حناجرهم أثناء أعمال الزراعة أو الحراثة أو الحصاد تحمل الكثير من الأنغام التي تعود إلى الحضارة التي عرفت أقدم مدونة موسيقية في العالم.
حيث لعبت المصادفة دوراً رئيسياً في اكتشافها وذلك حين اصطدم محراث أحد فلاحي رأس شمرا بسقف مدفن أثري أثناء حرثه لحقله، لتتوالى بعد ذلك البعثات الأثرية على المنطقة لتكشف عن حضارة أوغاريت والتي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، اعتبر علماء الآثار حضارة أوغاريت من أهم الحضارات التي تعاقبت على سورية خلال تاريخها الطويل وذلك لعدة اعتبارات، حيث تمثل أوغاريت خلاصة التجربة الحضارية وصلة وصل بين حضارات الشرق وحضارات الغرب وقد امتدت مملكة أوغاريت في القرن الخامس عشر قبل الميلاد على مساحة واسعة من الأرض السورية وبسطت حكمها على أكثر من مئة قرية تتربع على مجموعة من التلال تتجاوز ثلاثين تلاً، ثم توقفت تلك البعثات عام 1939 خلال الحرب العالمية الثانية.
في خمسينيات القرن الماضي عثر علماء الآثار ومنهم الباحث الفرنسي «كلود شيفر» وهو أول عالم آثار نقّب في أوغاريت عام 1948 حيث عثر داخل خزانة صغيرة في القصر الملكي على 36 لوحاً فخّارياً يعود تاريخها للقرن الرابع عشر قبل الميلاد وذلك استناداً للسوية الأثرية التي وجدت هذه الألواح ضمنها نقشت عليها كتابات بالخط المسماري وقد تفتّت معظمها إلى قطع صغيرة بسبب طول فترة تخزينها والعوامل الجوية إلا أن واحداً من هذه الألواح كان شبه سليم ولكنه مكسّر إلى ثلاث قطع كبيرة تم تجميعها وتركيبها واعتبر من أشهر الرقم المكتشفة في أوغاريت وهو اليوم محفوظ في المتحف الوطني بدمشق وأمكن قراءة الجزء الأكبر مما عليه وهو مقسوم إلى قسمين: الأول كتب فيه أبياتاً من قصيدة صوفيّة ملأت الدنيا وشغلت الناس واعتبرها الباحثون أنشودة العبادة الرئيسية في أوغاريت والتي سلّطت الضوء على طقوس العبادة والحياة الدينية فيها وقد مزجت القصيدة بين الدعاء والحب وهي بعنوان «نيكال» وقام عدد من الباحثين بدراستها وشرحها وتحليلها والاستناد عليها لفهم طبيعة الحياة في أوغاريت وهي نوع من الابتهال تتحدّث عن امرأة عاقر تود أن تصبح أمّاً اسمها نيكال وتصف حالتها الحزينة لأنّها لا تنجب أطفالاً:
سأرمي عند قدمي الحق خاتم رصاص
سوف أتطّهر… وأتغير من الخطيئة
لم تعد الخطايا تغطيها ولا حاجة أكثر إلى تغييرها
قلبي مطمئن بعد أن أوفيتُ نذري
سوف تعزّني مولاتي
ستجعلني عزيزاً على قلبها
فنذري سيغطي ذنوبي
وسيحل زيت السمسم بدلاً مني
في حضرتك اسمحي لي
إنك تجعلين العاقر خصيبة
والحبوب تعلو صعوداً
إنها الزوجة التي ستحمل الأطفال إلى أبيهم
هي التي إلى حد الآن لم تعط أطفالاً تحملهم…
والقسم الثاني من الرقيم نقش عليه رموز وكتابات مرافقة فسّرها علماء الآثار بأنها أول نموذج لمدوّنة موسيقية في التاريخ وهي تشكّل بدايات إرث موسيقي لا يضاهيه إرث آخر، لقد كان العثور على هذه النوتة الموسيقية الفريدة من نوعها اكتشافاً مهماً للغاية وشكّل نقطة تحول مميّزة في تاريخ الموسيقا وتطوّر الإنسانية إذ إنها المرة الأولى التي يعثر فيها على مدوّنة موسيقية حقيقية مكتوبة بلغة النوتة الموسيقية، وكشف الرقيم الطيني الذي دوّنت عليه النوطة الموسيقية الأبعاد بين العلامات وأسلوب دوزنة الأوتار، كانت الكتابات على الرقيم بالحرف المسماري وهو الخط الذي انتشر في هذه المنطقة قبل آلاف السنين واستغرقت دراسة الرقيم وفك شيفرته فترة زمنية لا بأس به تم التوصّل بالنتيجة أن أبناء أوغاريت كانوا يكتبون النوطة الموسيقية باستخدام سلم فيثاغورث الموسيقي وتوصّل بعدها الباحثون والمهتمّون بهذا الشأن إلى أن الحقائق التي قدّمها هذا الرقيم قلبت الموازين وأعادت تصحيح التاريخ، فحتى وقت قريب كانت البحوث الغربية في تاريخ الموسيقا تشير إلى أن السلّم الموسيقي السباعي الذي تحدث عنه فيثاغورث عام500 ق. م هو أساس السلم الموسيقي المعروف عالمياً حالياً ولكن ما قدمه هذا الرقيم من حقائق أكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن السوريين هم أول من وضع أساس السلم الموسيقي من سبع نوطات قريب من علامات دو، ري، مي المعتمد عالمياً اليوم قبل فيثاغورث الذي ينسب إليه وضع السلّم الموسيقي بأكثر من1000 عام.
يعكس التراث الموسيقي لسورية تاريخاً حياً وثريّاً وثقافات متعدّدة تتجاوز الحروب والكوارث والفتن الكثيرة والمتنوّعة التي مرّت على هذا البلد العريق إذ لا يمكن الحديث عن نشأة الموسيقا وتاريخها دون ذكر أوغاريت، فمنذ اكتشاف أول مدوّنة موسيقية على رقيم طيني والموسيقا متلازمة مع الإنسان، وقد احتلّت الموسيقا في أوغاريت مكانةّ مقدّسة وارتبطت بطقوس العبادة وشكّلت جزءاً حيوياً من نظامها الحياتي والديني والاقتصادي عدا عن حضورها في الاحتفالات الشعبية والرسمية.
ولم تمتز سورية بأنها قدّمت للعالم أول لحن موسيقي فحسب، بل قدّمت أيضاً العديد من الآلات الموسيقية المتنوعة النفخية والإيقاعية والوترية والعاجية لعزف الألحان ومن الآلات النفخية التي كانت تستخدم في أوغاريت البوق العاجي والذي تم تصنيعه من عاج ناب الفيل أو ناب فرس النهر بعد أن يتم حفه وترقيقه من الخارج ليتوافق مع المظهر الجانبي وقد أبدع أبناء أوغاريت في صناعته وجعلوا منه أداة فريدة من نوعها في تلك الفترة وهذا يطرح تساؤلاً عن سبب وجود أنياب الفيل وفرس النهر في هذه المنطقة، فهل كانت تعيش تلك المخلوقات في مملكة أوغاريت؟ أم إنه يتم جلبها من البلدان التي تتواجد فيها بشكل طبيعي وبالمناسبة فقد وجد ضمن المكتشفات الأثرية التي تم العثور عليها في أوغاريت على تمثال صغير لامرأة جالسة على عرش تم نحته وتصنيعه من ناب الفيل أيضاً وهو محفوظ في متحف اللوفر وهنا لابد من التأكيد على نقطتين تعكسان أهمية حضارة أوغاريت، الأمر الأول وهو إبداع الفنان الأوغاريتي حيث تم نحت التمثال بمقاييس وأبعاد صغيرة إذ تبلغ أبعاده ( 2.71 × 1.11 × 0.99 ) سم وهي مقاييس صغيرة جداً ويشكل نحت التمثال تحدياً بالمقارنة مع أدوات النحت المتوفرة في تلك الفترة، الأمر الثاني هو أن هذا التمثال يمثّل امرأة جالسة على العرش وهو يعكس مكانة المرأة في المجتمع الأوغاريتي، ومن الآلات الموسيقية أيضاً قيثارة تشبه الطوق تقطعه عارضة شدّت عليها الأوتار والتي تطوّرت حتى وصلت لشكل العود الحالي ذي الطابع الشرقي المميّز وكانت آلة العود ترافق طقس تطعيم الكرمة حيث كان يعتبر التطعيم في أوغاريت من الطقوس المهمة التي تعني التخلص من الجفاف والقحط والموت ويساعد الكرمة على التجدد والنمو، إضافة إلى العديد من الآلات الموسيقية الإيقاعية مثل الصنوج وتصنّع من النحاس والبرونز، والآلات الوترية مثل الكنارة وهي أكثرها استخداماً في المشرق العربي وقد احتلّت مكانةً مقدّسةً وهي عبارة عن مستطيل خشبي تغلف بالذهب والفضة وتضم سبعة أوتار، تصنع أوتارها من أمعاء الحيوانات بعد معالجتها ونقعها في الزيت لوقت محدد لحفظها وحمايتها، كما عرفت حضارة أوغاريت الناي وهو من الأدوات الشهيرة والمستخدمة جداً في المدينة، كذلك هناك الطبلة وتلفظ طب ومن الواضح اشتقاق الاسم من الصوت الذي تصدره الآلة، ولها أنواع عديدة مختلفة الحجوم فقد كانت هناك صغيرة الحجم وهناك الكبيرة المقدسة والتي كانت تستخدم في الشعائر الدينية وتم العثور خلال التنقيبات الأثرية على تماثيل صغيرة لموسيقيين يعزفون على الطبلة وعلى القيثارة والشبابة المزدوجة.
وقد هيأ لها موقع أوغاريت الساحلي لتكون منفتحةً على جميع التيارات الثقافية والفنية والعلمية ولتكون عاصمة التجارة العالمية ومركزاً تجارياً ضخماً وخزاناً للبضائع القادمة من الشرق إلى الغرب أو العكس ومن الجنوب إلى الشمال وبالعكس، كما أن وفرة الأراضي الزراعية الخصبة المحيطة بها وغزارة الأمطار قد أديا لجعل أوغاريت بلداً غنياً بالمنتوجات الزراعية كالزيتون والعنب والحبوب ومحطةً لإنتاج الزيت والنبيذ وسوقاً غنياً للصناعات اليدوية وتصديرها إلى البلدان المطّلة على حوض البحر المتوسط وما وجود مستودعات الميناء المخصصة لحفظ الحبوب والزيوت وسائر المنتجات إلا دليل على سمعتها التجارية العالمية وبذلك ازدهرت المملكة وتوفرت فرص العمل وبالتالي تحسن دخل قاطنيها وارتفع مستوى المعيشة فيها، الأمر الذي يعتبر محفّزاً على الإبداع والتميّز وتوافدت إليها الشعوب وحرص الإنسان ومنذ الألف السابع قبل الميلاد على استيطانها، وبالنتيجة يمكننا القول إن الموقع الجغرافي المميز لأوغاريت على الساحل السوري والبيئة الغنية التي أحاطت بها انعكس إيجاباً على مختلف نواحي الحياة وجعلها بحق من أهم الممالك والحضارات التي تعاقبت على هذه المنطقة.
وختاماً لابد أن نؤكّد بأن أي أمة تعي حقيقة وجودها ورسالتها في الحياة يجب أن تحرص على أن تكتب تاريخها بأيدي أبنائها لأنه سجلها وهويتها وخصوصيتها ولابد من نقل هويتها وخصوصيتها للناشئة لتتمكن تلك الأجيال من المحافظة على كيانها ووجودها.
م علي المبيض -عن الوطن