كتب منذر البوش على RT
دخل ألكسندر المقدوني سوريا فاتحا سنة 333 قبل الميلاد، وخيم في تخوم أنطاكيا السورية، (التي هي تحت السيادة التركية منذ عام 1938) وشرب من ماء نبع قريب قبل أن يبوح بمقولته الشهيرة:
“ماء هذا النبع يذكرني بحليب أمي.. سوريا هي وطني الثاني”.
وبعد 2253 عاما “فتح” الفرنسيون سوريا واكتشف علماؤها أطلال مملكة أوغاريت، غير بعيد عن مرابط خيل المقدوني، وتحديدا في تل رأس شمرا قرب مدينة اللاذقية الساحلية.
كما عثر الفرنسيون بين عامي 1929 و1988 على 3557 رقيما فخاريا، أشهرها ذاك الذي يوثق لأقدم وأكمل أبجدية عرفها التاريخ، وهي أبجدية أوغاريت التي تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
لاحقا تولى عالم المسماريات الفرنسي شارل فيرلو دراسة فك رموز رُقم أوغاريت ليطلق بعدها عبارة ما فتئ السوريون يتباهون بها: “لكل إنسان وطنان.. وطنه الأم وسوريا”.
فأبجدية أوغاريت كانت مددا وأساسا لما تلاها من أبجديات، فهي تضم ثلاثين حرفا أو إشارة مسمارية ترمز كل منها إلى حرف ساكن مستقل عن الصوت كما هو الحال في الكثير من الأبجديات الحديثة.
كما سجلت رُقم أوغاريت وثائق علمية وقانونية ودينية وملاحم وأساطير.. هنا نقرأ أسطورة الأميرة “أوروبا”، شقيقة الأمير الفينيقي قدموس، والتي منحت اسمها للقارة العجوز، وكذلك أسطورة “طائر الفينيق”، رمز الانبعاث الدائم.. وهنا نتعرف على دور الفينيقيين، ملوك البحار، وتقاليدهم، ونمعن في أجمل تجليات ميثولوجيا هذا الشعب عبر نصوص تبرز عظمة وأهمية الكلمة والحكمة والفضيلة.
أوغاريت ومعها حواضر”إيبلا” و”ماري” و”تدمر” وغيرها من المدن السورية المنسية التي اكتشف خباياها علماء الغرب “الكافر” تُهدم اليوم بمفخخات “أهل البيت” “المسلمين” وبقذائف محلية “طائشة”، هي أدوات حرب أجبرت ملايين السوريين على هجر الوطن الأم ومغادرته من حيث دخل الفاتح “المقدوني” إلى تركيا آنذاك.
من السواحل العثمانية رصد “الفينيقيون الجدد” المفجوعون، نيران منارة على الجانب الأوروبي، فاستهدوا بها وركبوا البحر قاصدين، لكن ليس بغرض التجارة، بل بحثا عن مكان آمن.. بعضهم فشل في تكرار تجربة أجداده في العبور إلى الضفة الأخرى فاستسلم لقدره في مياه المتوسط وإيجة.. وآخرون أفلحوا.
مع السوريين شخصت عيون غريبة إلى “المنارة الأوروبية” فاقتنصت فرصة اشتعالها وتسلحت، على وجه السرعة، بجواز سفر سوري مزور، وامتطت الموجة، قاطعة الدرب على الكثير من “أبناء المصيبة” الحقيقيين في اللجوء إلى حضن القارة العجوز.
هنا قفزت إلى المخيلة مقولة عالم الآثار الفرنسي، لكن بكلمات أخرى: “لكل إنسان جوازا سفر.. جوازه الأصلي والسوري”.
فوضى الهجرة هذه أثارت حنق الشارع الأوروبي دافعة بحكوماته إلى التفكير بـ “غربلة” المهاجرين وفرز أبناء النزاعات، وخاصة “السوريين” منهم، وهي مسألة تبدو معقدة بعض الشيء وتتطلب وقتا طالما السوريون بأمس الحاجة إليه اليوم للم شمل أسرهم التي تركوها خلفهم.
فجيعة السوريين بوطنهم تبدو ربما من أوضح أسباب التعاطف الأوروبي، الذي يكاد يكون شبه حصري مع أبناء هذا البلد. لكن هناك أسباب أخرى غير معلنة لهذا التعاطف يحركها اللاوعي.. فالأوربيون ارتبطوا بعرى تجارية وثيقة مع الفينيقيين، حسب نصوص أوغاريت وغيرها، كما خبروا سوريا وأهلها بحكم غزواتهم التاريخية، ومنها غزوات جيش روما التي قادت إلى الأسر شخصيات سورية سرعان ما اندمجت في محيطها الجديد وذاع صيتها في أصقاع الإمبراطورية الرومانية.
ومن بينها ابن انطاكيا، الشاعر الحكيم “بوبيلو السوري” الذي خدم لدى أحد وجهاء روما، إلا أن نباهته وذكاءه وحسن خلقته وحكمته أهلته لاحتلال مكانة مرموقة إلى جانب المفكرين في بلاط إمبراطور روما.
بدليل الاسم الذي أطلقه عليه الرومان أنفسهم (“بوبيلو” يعني عند الرومان، المخلص أو “صديق الشعب”)
تنسب إلى هذا الشاعر أقوال مأثورة منها “مثلما تعامل الآخرين عليك أن تتوقع أن يعاملوك”.. “الشعب جدير بالاحترام حيث تُحترم القوانين” .
وهي مفاهيم يبحث عنها الأوربيون في الزائرين الجدد، ويتوقعون أن يروا جذورها راسخة في عقول الفينيقيين منهم، بما يمهد لتثبيت أقدامهم وتماهيهم مع المجتمع الجديد، حسب رأي العارفين.