لم يكن يوجد بدمشق مكتبات عامة لحفظ وإعارة الكتب بالشكل المتعارف عليه اليوم، فقد كانت الكتب تُحفظ في المساجد والكنائس وبيوت الدمشقيين، وتُعَدُّ المكتبة الظاهرية، الواقعة في مدينة دمشق القديمة قرب الجامع الأموي ضمن مبنى أثري، أولى المكتبات العامة الشاملة بدمشق، أنشأها الملك الظاهر بيبرس عام 1277 م لتكون المدرسة الجامعة لبلاد الشام جمعاء، وفي عام 1880 م استطاع والي دمشق مدحت باشا الحصول على أمرٍ سلطاني بجمع الكتب والمخطوطات من المكتبات الوقفية، وقام الشيخ طاهر الجزائري بزيارة كبريات الأسر الدمشقية وإقناع أصحابها بتقديم مقتنيات مكتباتهم هديةً للمكتبة الظاهرية، وهي: المكتبة العمرية، مكتبة عبد اللـه باشا العظم، مكتبة الخياطين، مكتبة الملا عثمان الكردي، المكتبة السليمانية، المكتبة المراديَّة، المكتبة السميساطيَّة، مكتبة علي الدفتري، مكتبة الأوقاف، المكتبة الياغوشيَّة، مكتبة جامع يلبغا، مكتبة المدرسة الأحمديَّة؛ وهذا ما شجَّع كثيراً من الناس على تقديم مكتباتهم إهداءً، وهذه الكتب شكَّلت نواتها الأولى من الكتب. وبتاريخ 25/8/1930 صدر قرار رئيس مجلس الوزراء السوري رقم 2375 الذي يُلزم الطابع بوضع نسختين من مطبوعه في المكتبة الوطنية.
في عام 1983 صدر المرسوم التشريعي رقم 17 القاضي بتأسيس مكتبة الأسد مكتبة وطنية للقطر العربي السوري، وشكَّلت مخطوطات المكتبة الظاهرية وبعض كتبها نواتها الأولى من الكتب، وبدأت باستقبال القراء عام 1984.
وإضافة إلى هاتين المكتبتين، فإن كل الإدارات الحكومية والجامعات والكليات والمعاهد والمراكز الثقافية والمنظمات والمدارس وبعض المساجد والكنائس تضمُّ مكتبة.
كانت هذه المكتبات تشهد إقبالاً لافتاً على ارتيادها ومطالعة الكتب فيها، غير أن هذا الأمر قد تراجع في السنوات الأخيرة بشكلٍ ملحوظ.
أوائل المطابع ودور النشر بدمشق
بدأ ظهور المطابع بدمشق منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، ففي عام 1855 م ظهرت أول مطبعةٍ: «المطبعة الحفنيَّة»، وسميت نسبة لصاحبها «محمد الحفني» الذي اشتراها عام 1882م، وتلتها عام 1864م «مطبعة ولاية سورية»، ثمَّ «المطبعة العسكرية» التي كانت مختصة باللوائح العسكرية، فـ: «المطبعة الخيرية» عام 1880م، وفي العام نفسه ظهرت «مطبعة نهج الصواب»، وفي عام 1898م ظهرت: «المطبعة العلمية» التي دُعِيت فيما بعد بمطبعة الفيحاء، و«المطبعة الحميدية»، وفي عام 1936 تأسَّست «مطبعة الإنشاء»، وغير ذلك من المطابع، وقد أصدرت كل هذه المطابع كتباً وصحفاً ومجلاتٍ.
وحتى تلك الفترة لم يكن يوجد بدمشق مفهوم «دار نشر» التي تتولى طبع الكتب وتوزيعها، وبقي الأمر كذلك حتى عام 1934 عندما تأسس «مكتب النشر العربي»، وتلاه: «دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر» 1939، دار الرواد 1952، مكتبة عبيد (وكانت في منطقة الحريقة)، وهذه الدور مغلقة منذ سنوات، دار دمشق 1954، دار الفكر 1957، وهاتان الداران ما زالتا تعملان ولكن بشكلٍ أضعف من السابق، وتُعَدَّان من أقدم دور النشر العاملة بدمشق، أما وزارة الثقافة فما تزال تعمل باستمرار منذ عام 1960، واستمر عدد دور النشر بالتزايد حتى بلغ عددها في سورية المسجلة رسمياً بسجلات وزارة الإعلام نحو 400 دار حتى عام 2011، أغلبها بدمشق، وقلة من هذه الدور ناشطة بعملها وتصدر كتباً كثيرة، علي حين أن أغلبها لا يصدر إلا عدداً محدوداً من الكتب، وهذا ما يعبِّر عنه: (دار نشر قوية ودار نشر ضعيفة)، بعضها له مطابع خاصة به، وأكثرها يطبع كتبه في مطابع مستقلة. أشير إلى أن الحديث هنا هو عن الكتب فقط، أما الصحف والمجلات فلها حديثٌ آخر، وأشير أيضاً إلى أن الكتب المنشورة في هذه الدور تشمل فقط الكتب الثقافية العامة، مختلف الاختصاصات، مؤلفة ومحققة ومترجمة، التي يقرؤها عامة الناس خياراً ثقافياً وغير ملزمين، كباراً وصغاراً ومن الجنسين، وكانوا كثرة، أما الكتب المدرسية والجامعية الواجبة القراءة فتتولى طباعتها إدارات حكومية.
مكتبات دمشق
والمقصود بالمكتبة هنا المكتبة التي تستلم الكتاب من المطبعة أو دار النشر وتبيعه للقراء، وقد كانت منتشرة في مختلف أنحاء دمشق، ولاسيما في وسطها التجاري، ثم أخذت بالتناقص. وأدرج هنا المكتبات التي كانت تعمل حتى سنواتٍ قليلة مضت، ثم أغلقت في تواريخ مختلفة.
وإغلاق هذه المكتبات وغيرها لا يعني أن مهنة بيع الكتب قد توقَّفت، فما زال بدمشق مكتباتٌ عديدة تعمل بنشاط، ومنها مكتبة النوري ومكتبة نوبل ومكتبة دار البشائر ومكتبة النهضة العربية ومكتبات منطقة الحلبوني، ولكن بأرباحٍ أقل، فالإقبال على شراء الكتب متدنٍ، كما نرى بأعيننا، وكما ذكر لنا أصحابها.
غير أن أكثر ما ساعد على تنشيط الكتاب بدمشق، تأليفاً وطباعةً وتوزيعاً، ووضعه في مكانه اللائق، وجعله يتبوأ مكاناً رفيعاً، هو:
– معرض الكتاب بمكتبة الأسد الوطنية:
أُقيم أول معرضٍ للكتاب بمكتبة الأسد الوطنية بدمشق خلال الفترة 1-10/10/1985، ومع أنه كان محدوداً بعدد دور النشر التي شاركت به، التي استوعبتها قاعةُ داخلية واحدة ضمن مبنى المكتبة، إلا أنه شهدَ إقبالاً لافتاً بزواره وحجم مبيعاته، ما شجَّع دور النشر المحلية والعربية والمكتبات المستوردة للكتب الأجنبية على المشاركة في السنوات التالية.
أُقيم المعرض بدورته الثانية بقسمٍ من حديقة المكتبة، واستمرت مساحته بالتزايد دورةً إثر دورةٍ حتى غطت كامل الحديقة نتيجة تزايد عدد دور النشر المحلية والعربية، ووصل الاتساع ذروته عام 2004 عندما عجزت حديقة المكتبة عن استيعاب كامل الأجنحة، وتمَّت تغطية نقص المساحة في الحديقة المجاورة للمكتبة على الطرف الثاني من شارع عدنان المالكي، حيث كان الزوار يتنقلون بين قسمي المعرض عبر الشارع.
لا شكَّ في أن تزايد عدد دور النشر المشاركة في المعرض، إنما هو ناجمٌ عن تزايد عدد الزوار من الجنسين، ومن مختلف الأعمار، والإقبال النهم على شراء الكتب من مختلف الدور، ومن مختلف الاختصاصات، ما حقَّق أرباحاً مجزية للناشرين، ليس فقط من مبيعاتهم في المعرض، بل من كمية الكتب التي لا تباع في المعرض، والتي شكَّلت ذخيرة لاستمرار عملهم على مدار العام وحتى المعرض التالي، فقد كانت مكتبة الأسد تقدم لهم تسهيلاتٍ كبيرة لإدخال الكتب إلى سورية من خلال بوابة المعرض.
كان الازدحام في المعرض شديداً، وكم من مرة سمعنا فيها هذه العبارة: «ما في محل تحط قدمك»، إلى درجة أن باب المعرض كان يُغلق لبرهةٍ قصيرة ريثما يخرج بعض الزوار، فيصبح بالإمكان استيعاب المزيد. ولم يكن قدوم الزوار إلى المعرض للفرجة وتمضية الوقت فقط، بل لشراء الكتب، وكان مشهداً مألوفاً رؤية طوابير الزوار حاملين الكتب المشتراة ومصطفين أمام طاولات المعرض عند باب الخروج، حيث يجلس موظفو المكتبة للتأكد من مطابقة الفواتير مع الكتب المشتراة، ففي حالات ازدحامٍ كهذه قد تحدث أخطاء في أثناء عملية البيع.
وكان المشهد الأكثر لفتاً للنظر هو التهافت الشديد للحصول على توقيع كتابٍ من مؤلفه، فالكتاب الموقَّع له قيمة إضافية لا تعادلها أي قيمة، وما المشهد الفريد الذي رأيناه في اليوم ما قبل الأخير من معرض الكتاب الحادي والثلاثين عام 2019، عند توقيع كتاب: «الرجل الذي لم يوقع»، من تزاحمٍ وتدافعٍ لتوقيعه من مؤلفته الدكتورة بثينة شعبان؛ إلا صورة طبق الأصل لما كان يحدث سابقاً.
غير أن الحرب الظالمة التي يشنَها الأعداء على سورية منذ عام 2011، قد أثَّرت كثيراً في حركة الكتاب، تأليفاً وطباعةً وتوزيعاً، كما أثَّرت على القطاعات الأخرى، فتوقَّف معرض الكتاب حتى عام 2016، حيث أعيد افتتاحه في حديقة المكتبة، وجرت حتى الآن أربع دورات آخرها المعرض الحادي والثلاثون الذي اختتم بتاريخ 22/9/2019، ولكن بعدد دور نشرٍ أقل، وزوارٍ أقل، وأرباحٍ أقل.