رحب اليمين الاسرائيلي بحماس بوصول دونالد ترامب الى البيت الابيض، إذ يعتقد هذا التيار ان مجيء ترامب يؤذن بانطلاق حقبة جديدة من التوسع الاستيطاني في الاراضي الفلسطينية المحتلة.
ويبدو ان الحكومة الاسرائيلية اعتقدت ذلك ايضا، إذ رحبت بفوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الامريكية بالاعلان عن اصدار موافقات لتشييد العديد من الوحدات الاستيطانية الجديدة في القدس الشرقية والضفة الغربية.
شهدت في الاسبوع الماضي، اثناء زيارة قمت بها الى مستوطنة بيت ايل التي يسكنها يهود متدينون وقوميون والتي تقع قرب رام الله الى الشمال من القدس، نموذجا للحماس الذي ولده فوز ترامب.
في الوقت الذي قد يوحي فيه تعبير "المستوطنة" بشيء جديد او مؤقت، ليس هناك اي من ذلك في بيت ايل، التي تشبه ضاحية صغيرة اكثر من اي بناء مؤقت. أسست هذه المستوطنة قبل 40 سنة، ويسكنها اليوم اكثر من 7 آلاف نسمة.
بما ان بيت ايل تقع الى شرق معظم المستوطنات الاسرائيلية الاخرى في الضفة الغربية، كان من المسلم به بالنسبة لمؤيدي حل الدولتين انه سيتوجب التنازل عنها اذا تم التوصل الى اتفاق بهذا المعنى.
التقيت بالمؤرخ التوراتي هاغي بن ارتزي المقيم في بيت ايل منذ اكثر من 38 عاما، وقال لي إنه يأمل بانبثاق "عهد جديد" بمجيء ترامب.
وانحى المؤرخ باللائمة لشح المساكن الجديدة في المستوطنة على تقاعس الحكومة الاسرائيلية في مواجهة الرئيس الامريكي السابق باراك اوباما، كما رحب برئاسة ترامب بأمل ان تأتي الادارة الجديدة ببرنامج نشط للتوسع الاستيطاني.
سياسة تتطور باستمرار
وبدا ان تفاؤله له ما يبرره. اصطحبني بن ارتزي الى الكنيس الملحق بالمدرسة الدينية اليهودية في بيت ايل حيث كان العشرات من الشبان يؤدون صلواتهم المسائية.
كان الكنيس مبنى جديدا ومضيئا. وقال لي بن ارتزي إن ديفيد فريدمان، الرجل الذي اختاره ترامب سفيرا جديدا للولايات المتحدة لدى اسرائيل، تبرع بجزء على الاقل من تكاليف تشييده.
ليس فريدمان المؤيد الوحيد لمستوطنة بيت ايل في الادارة الامريكية الجديدة، فصهر ترامب وحافظ اسراره جاريد كوشنر – وهو الشخص الذي يقول ترامب إن بامكانه تحقيق اتفاق للسلام بين اسرائيل والفلسطينيين – هو الآخر من المؤيدين الاقوياء لحركة الاستيطان.
ولكن التساهل الذي يبدو ان ترامب يعبر عنه لاستئناف بناء المستوطنات يسبب عددا من المشاكل الآنية بالنسبة لرئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو.
فخلال فترة حكم اوباما، اضطر نتنياهو الى موازنة مطالب اليمينيين المتطرفين في حكومته مع الضغوط الامريكية التي كانت تطالبه بالامتناع عن القيام بأي خطوات قد تعقد مهمة استئناف عملية السلام.
وبشكل من الاشكال، وفر الامريكيون مبررا لنتنياهو لمقاومة المطالب الاكثر طموحا لليمين الاسرائيلي. ولكن، الآن وقد دخل ترامب البيت الابيض، يبدو موقف رئيس الحكومة الاسرائيلية اكثر هشاشة.
ولكن قد لا يكون الامر كذلك، فسياسة ادارة ترامب الشرق اوسطية ما زالت في مرحلة التشكل، وكغيرها من سياسات هذه الادارة الجديدة لم تتضح بعد معالم هذه السياسة. الا ان التصريح الاخير الذي ادلى به البيت الابيض يوحي بأن الرئيس ترامب يريد – كحد ادنى – اعطاء نتنياهو مبررا لكبح جماح الحماس الاستيطاني لمعارضيه من اقصى اليمين.
جاء في تصريح البيت الابيض أن "ادارة ترامب لم تتخذ بعد موقفا رسميا حيال النشاط الاستيطاني"، لافتا الى ان "ادارة ترامب لا تعتقد بأن وجود المستوطنات يشكل عائقا لعملية السلام". ولكن التصريح مضى للقول إن "تشييد مستوطنات جديدة او توسيع المستوطنات الموجودة الى خارج حدودها الحالية قد لا يساعد في تحقيق حل سلمي للصراع الفلسطيني الاسرائيلي."
موضوع السفارة
ليست قضية المستوطنات بالطبع الموضوع الوحيد المثير للجدل بين اسرائيل والولايات المتحدة، إذ كان ترامب اعلن اثناء حملته الانتخابية بأنه عازم على نقل السفارة الامريكية في اسرائيل من تل ابيب الى ما وصفها "بالعاصمة الابدية للشعب اليهودي، القدس."
وكان رؤساء سابقون قطعوا وعودا مماثلة في السابق، ولكنه كانوا حريصين على ايجاد المبررات لعدم تنفيذ تلك الوعود لسبب بسيط وهو ان المجتمع الدولي بشكل عام لا يعترف باحتلال اسرائيل للقدس الشرقية عام 1967 وضمها اليها لاحقا.
في المؤتمر الامني الذي تستضيفه تل ابيب سنويا، قال لي فيليب غوردون الذي عمل منسقا لشؤون الشرق الاوسط لدى ادارة اوباما إن نقل السفارة الامريكية الى القدس سيكون خطأ خطيرا.
وقال غوردون "هناك خطر حقيقي بأن خطوة كهذه لن تؤدي فقط الى اندلاع احتجاجات قد تتسم بالعنف ليس في القدس فقط بل في سائر ارجاء العالم الاسلامي، ولكنها قد تقوض ايضا التعاون الامني المتنامي بين اسرائيل وعدد من الدول العربية" مثل السعودية وغيرها من دول الخليج التي تشترك مع الدولة العبرية في خوفها من النفوذ الايراني المتنامي.
كما عبر غوردون عن خشيته من ان يقوض نقل السفارة العلاقات الاقتصادية بين اسرائيل والاردن.
لذا، فإن نقل السفارة الامريكية الى القدس، رغم انه سيسعد الاسرائيليين، فإنه سيخاطر بتقويض التفاهم الاسرائيلي – السني حول ايران، وباعادة الملف الفلسطيني الى الواجهة في وقت لا توجد فيه اي فرص حقيقية لتحقيق تقدم نحو السلام.
مواقف مشتركة
هذا ما يتعلق بالصعوبات. اما المجال الذي ليس من المرجح ان يشهد اي تغيير ملموس فهو مجال العلاقات الاستراتيجية والعسكرية الاساسية بين اسرائيل والولايات المتحدة.
فكما قالت لي ميشيل فلورنوي، مديرة مركز الامن الامريكي الجديد في واشنطن، ومسؤولة سابقة في وزارة الدفاع الامريكية البنتاغون، "في نهاية عهد ادارة اوباما، وقعت الولايات المتحدة واسرائيل مذكرة تفاهم امدها 10 سنوات تنص على ان الولايات المتحدة ستزود اسرائيل بمساعدات عسكرية تبلغ قيمتها 4 مليارات دولار سنويا. لا اعتقد ان الرئيس ترامب سيتنصل من هذا الالتزام.
ولكن ترامب دأب، خصوصا عند حديثه عن حلفاء الولايات المتحدة في حلف الاطلسي، على الاصرار على ضرورة ان تتحمل هذه الدول المزيد من نفقات الدفاع عن نفسها.
تقول فلورنوي إن "ثمة تناقضا بين الالتزام القوي الذي عبر عنه ترامب لاسرائيل من جهة وفكرة امريكا اولا التي تشمل الامتناع عن تمويل اصدقائنا وشركائنا من الآن فصاعدا."
اما فيما يخص ايران، فإن ترامب ونتنياهو يتشاركان في عدائهما القوي لها.
فالنفوذ المتصاعد الذي تتمتع به ايران في المنطقة، وخصوصا عقب تدخلها الناجح لانقاذ النظام السوري من الانهيار، يجعل من طهران وحليفها حزب الله مصدر القلق الاول بالنسبة لاسرائيل.
تعارض اسرائيل الاتفاق النووي الذي توصلت اليه ايران مع القوى الدولية، كما يعارضه ترامب. ولكن مسؤولين امنيين اسرائيليين بارزين – مثلهم مثل نظرائهم في واشنطن – اشاروا الى انه قد يكون من الافضل الابقاء على الاتفاق كما هو رغم مثالبه والتركيز عوضا عن محاولة الغائه على التعاون – ربما مع روسيا – نحو الحد من النفوذ الايراني المتنامي في الشرق الاوسط.
العلاقة الشخصية
ولكن ماذا عن العلاقة الشخصية بين نتنياهو وترامب ؟
يحاجج ايتامار رابينوفيتش، وهو سفير اسرائيلي سابق لدى الولايات المتحدة، بأن العلاقة بين الدولتين قد تتأثر الى حد بعيد بالعلاقة الشخصية بين الرئيس الامريكي ورئيس الحكومة الاسرائيلية.
قال لي رابينوفيتش "إن التنافر بين الرئيس اوباما ورئيس الحكومة نتنياهو كان له تأثير سلبي على العلاقات بينهما، ولكنه لم يؤثر على سبيل المثال على التعاون الامني الوثيق بين بلدينا."
يبدو، ظاهريا على الاقل، ان العلاقات بين نتنياهو والرئيس الامريكي الجديد تسير على ما يرام، ومن المقرر ان يلتقي الزعيمان رسميا لأول مرة منتصف الشهر الحالي.
ولكن اذا اخذنا بنظر الاعتبار شخصية ترامب المتقلبة، سيكون من العسير الجزم بأن العلاقات بينهما ستكون سلسة طيلة الوقت.
قلق اليهود الامريكيين
وهناك ايضا عوامل اخرى تفعل فعلها في هذا الخليط، احدها موضوع لا يناقش الا قليلا خارج الدوائر اليهودية ويتعلق بالعلاقة المعقدة بين اليهود الامريكيين واسرائيل.
لم يصوت معظم اليهود الامريكيين لترامب في الانتخابات الاخيرة، وبينما يستمر هؤلاء في دعم اسرائيل، ينظر كثيرون منهم بعين الريبة الى الجنوح نحو اليمين في اسرائيل بل وفي الولايات المتحدة ذاتها.
ويلعب العامل الطائفي دورا في هذا الموقف، إذ ينتمي معظم اليهود الامريكيين الى التيارات الدينية اليهودية التقدمية، وهي التيارات التي لا تدافع عنها الحكومة الاسرائيلية التي تفضل مجاراة ومحاباة المؤسسة الدينية المتشددة في اسرائيل.
قال لي الحاخام اريك يوفي، الرئيس السابق للتيار الاصلاحي لليهود الامريكيين، إن "هذه الخلافات تؤدي بالفعل الى تدني التأييد لاسرائيل نتيجة المسائل الدينية والتطرف الديني في اسرائيل. اعتقد ان هذا الموضوع مثير للقلق فعلا."
واضاف "في بعض الاوجه، يعد هذا الامر اكثر اهمية من الخلافات السياسية المتعلقة بالسلام والمستوطنات وغيرها."
عدت من زيارتي التي استغرقت اسبوعا الى اسرائيل وقد استشعرت شعورا عميقا بالقلق، يشمل حتى اوساط مؤيدي ترامب، فالكل يجهل ما يمكن ان يفعله الرئيس الامريكي الجديد.
لخص السفير السابق رابينوفيتش الامر تلخيصا جيدا عندما قال "أسأل دائما عما اريد ان اشاهده في السياسة الامريكية، فأجيب: اولا وقبل كل شيء اريد ان ارى رئيسا امريكيا من الطراز الأول يبقي على عظمة امريكا. فكلنا بحاجة الى امريكا."
ومضى للقول "إن العالم بحاجة الى امريكا لادارة النظام الدولي، واسرائيل تحتاج الى مساندة امريكا، ولأجل ان يتم ذلك بشكل فعال لا بد ان تكون امريكا نفسها في وضع جيد, ان ما يقلقني حقيقة هو قدرة الرئيس ترامب على قيادة وادارة امريكا بشكل مثالي. هذا امر لم يتضح بعد."