اثنا عشر عاماً من العزلة في دار السعادة للمسنين، اختارها ممتاز البحرة بطواعية مطلقة، وبنضوج كبير، وبتفوق عاطفي لا يمكن لأي امرئ أن يستوعبه أو أن يقدم عليه، إلا إذا كان على جانب كبير من الاستقلالية وقدر أكبر من التوازن العقلي والفكري وأيضاً العاطفي، إضافة إلى ما يملكه من جوانب شخصية مسؤولة عن راحة الطرف الآخر قبل ما تريده النفس. نعم لقد اختار أن يعيش في دار السعادة للمسنين في المزة وباتفاق مع أم الأولاد، محترماً الرغبة ومكتفياً بالتعود على غرفة من أربعة جدران، ضيقة المساحة، واسعة بفضاء العاطفة والمحبة، أنا لم أعرف من قبل أنه يعيش هناك، ولكن لكوني من جيل تربى على رسوماته وواحدة من أصدقاء صفحة فيسبوكية مخصصة لرسوماته، مرة سألت عنه رئيس قسمي، قسم الثقافة والفن الدكتور إسماعيل مروة الذي أخبرني بوجوده في الدار، وطلب مني محاولة التواصل مع الفنان الراحل، وعلى الفور بادرت الاتصال بالاستعلامات ثم بالدار، وفي الأخيرة حولوا المكالمة، لم أتمالك نفسي ولكن صوته الهادئ والدافئ والمتفهم هو ما هدأ حماستي.
بداية كان رافضا أن يقابلني كصحفية إلا أنه رحب بلقائي لأني كنت طفلة تربت في كتبها المدرسية على رسوماته المخصصة لباسم ورباب وميسون ومازن، اتفقنا على موعد وذهبنا أنا وزميلي عامر فؤاد عامر، جلسنا وكأنّ لقاءات كثيرة سابقة كانت جمعتنا، لم نشعر بالغربة بل الإلفة هي الحاضرة، سألنا عن عملنا وأحوالنا في الوقت الذي حضّر لنا فيه الشاي في غرفته، كان هادئاً جداً، مستمعاً رائعاً، متفهماً بشكل كبير ومدركاً لكل ما هو حوله، وعندما كان يستنشق دخان سيكارته من نوع «الحمراء الطويلة» ثم ينفث الدخان وينطق بعدة كلمات، هنا شعرت بأنه يرسم كلماته عبر الدخان الذي ينفثه من صدره وفمه، كان متزنا جداً ورصين الكلمة، كلماته كانت غير مفهومة، وكما شرح لنا أنّ الندّبة في وجهه ناتجة عن حادث أصابه في آخر مرة كان يقود فيها «موتو سيكل» حينما كان يعمل في جريدة «تشرين» والتي كانت في بدايات التأسيس، لم تهمه الندبة ولا الجرح ولم يفكر يوماً بأن يخضع لعملية تجميل، بالتأكيد لأنه جميل الروح والقلب.
قامته الممشوقة فيها من الشباب شموخ ومن الكهولة حكمة ومن الطفولة نشاط وحيوية، السنون لم تغلبه فهو ذو إرادة حديدية، اختار البقاء لن أقول وحيداً، بل مستكيناً هادئاً مستنعماً بسلام كبير شق على الكثيرين من الأشخاص أن ينعموا به.
سلام السعادة
اختار أن يكون بعيداً عن الصخب لأنه يكره النفاق والكذب، فهو محبّ براحته، والمشاعر برأيه لا تُخلق عنوة بل هي حرة في اختيار محبيها وهذا بالنسبة له الأمر الطبيعي وخصوصاً أنه لا يراوغ في محبته، يحلق كالطير في السماء عالياً معتبراً أن براحها بمدى جناحيه، أخلاقه ومبادئه وفنه أمور لا يمكن لمرء أن يساوم عليها، ويرفض أن يقع أسيراً بسببها، ولأنّ رسوماته كانت محبوبة من الجماهير هذا الأمر أثار غيظ الكثيرين والمنافسين غير الشريفين والذين اعتمدوا سياسة التطفيش وعليه قرر هجر رسم الكاريكاتور وإغلاق الباب من دون أن يعيد فتحه من جديد، ليس لأنه استسلم أو شعر بالضعف، بل لأنه ملّ من عقلية تحارب الطموح والنجاح، كيف لا وهو المتفائل دائماً رغم رحيله عنا بعيداً، نعم لقد غادرنا في السادس عشر من الشهر الحالي في دار السعادة للمسنين، إلا أنه سيبقى أباً لجيل تعلم المبدأ وانتهج الخلق ولمس الأمل والتفاؤل في رسوماته وألوانه، رحل من اعتبر الطفولة مسؤولية كبيرة لا يجوز للكبار التلاعب بها، موصياً الجيل الجديد بأن يؤمن بأن دمشق هي منبع للمحبة وداعياً إلى عدم اليأس وبالمحبّة، مطالباً الجميع بأن يكونوا على قدر أكبر من التحضّر في التعامل مع المحيطين للوصول إلى مكان مشرق بالأمل والوعد بالأفضل كما هي حال رسوماته.
دمشقي العشق وسوري الهوى
تمسك ببلده مختاراً واحتضن كل أحيائها في قلبه فمتعته هي السير في شوارعها ليلاً، فكيف يترك سحرها ويمضي إلى بلاد لن يشعر من يعيش فيها بوجوده، بعكس بلده ووطنه سورية وخاصة دمشق التي كان يشعر أنها تمسك بيده في كل خطوة يخطوها في أحيائها وشوارعها، رغم ما كان يضغط عليه من معوقات مادية ورغم الحاجة التي كانت تخنقه إلا أنه بقي مكافحاً مؤمناً بأن له رسالة هنا، وهو معنيّ بها، فهو محدث لتغيير كبير وحقيقي في التربية والأطفال وهذا ما أشار إليه في حواره الذي انفردت به صحيفة «الوطن»: لم أسافر واخترت أن أبقى في بلدي، ومن الذكريات الجميلة كان لدي صديق اسمه «أبو الخير حلاق» وكنا في دورة الإنكليزي فتعرف إلى ابنة الملحق الثقافي السويدي، وطبعا خلال الدرس أنا كنت أرسم رسومات وألقي بها، في حين هو كان يأخذ رسوماتي ويحتفظ بها، وفي مرة شاهدت الفتاة السويدية الرسومات وأخبرت والدها عني وهنا تم عرض السفر علي فقلت لهم: «لن أسافر فأنا هنا رسام وقد أكون الوحيد في مجالي وتخصصي، في حين عندكم هناك أكثر من خمسمئة رسام، فأنا أفضل أن أبقى في بلدي وألعب هذا الدور هنا وبطبيعة الحال فنانوكم هم كفاية لكم ولستم بحاجة لي، على الرغم من أنني بوقتها كنت أعاني ضائقات مادية صعبة تزامنت مع هذا العرض، حتى إنني وقتها بكيت بحرقة لأنه لم يكن معي ثمن شراء الحليب لابنتي الرضيعة».
وصحيح أنه ولد في حلب إلا أنه تربى في دمشق العاصمة التي فتنته بسحرها وحضنها الواسع لكل سوري بغض النظر عن مذهبه كما قال: ولدت في حلب نتيجة ظرف والدي المهني، لكن تربيت في دمشق العاصمة التي تجمع كلّ الناس، وهذه أهم ميّزة فيها، فنجد في دمشق أناساً من كلّ مكان وليس فقط من سورية، وأنا نفسي– ممتاز البحرة– مزيجٌ واختلاط فأخوالي شيعة أتراك، ووالدي سنّي منسوب في شجرة العائلة، وجدّتي من علويي أرناؤوط، فلمن سأتعصب! ولمن سأنسب نفسي! فكلّهم أحبائي، والشام علمتني ذلك، علمتني أن أحبّ الجميع أيّاً كان مذهبه، وربيت مع الكبار فيها، ومرّ عليّ فيها كثير من الظروف، وعشت مع أهلي في ظروف السلم وظروف الحرب، وموجات الغلاء التي لا تقارن مع ما يجري اليوم، ومنعكسات الحرب العالميّة الثانية… إلخ، وأوّل شخصيّة رسمتها كنت في عمر السنوات الأربع بقلم الرصاص، ووالدتي كانت مُدرسة مُجتهدة، ووالدي كان شخصاً موهوباً، ورياضياً، ومصوّراً بديع اللقطات، ولديه صور تحمل حسّاً فنيّاً في غاية الجمال، ووالدي درّب أبطالاً، وقدّم ستة منهم وصلوا إلى مراكز أولمبيّة، فقد كان يدرب الجمباز، والمصارعة، ورياضات أخرى، وصدّر رياضيين دوليين، فكلّ تلك وغيرها عوامل أثرت فيّ، وفي رسومي، وفي فنّي بكلّ تأكيد.
الشعب في سورية لمّاح، وذكي، وطيّب، ويتعلّم ببطء، لكنّه يتعلّم في النهاية، ويأخذ العبرة، وأقصد بكلامي هذا من أصغر طفل إلى أكبر مسنّ، وكلّ رجل، وكلّ امرأة، ومن كلّ الطوائف على تعددها، فكلّنا أقارب، ولنا صلات تجمعنا، شئنا أم أبينا، فالسوريون لديهم حضور مدهش أينما حلوا، وحفيدتي اليوم تصل إلى نتائج من خلال تفكيرها ومقارناتها من دون أن نعلّمها ونلقنها، فتذهلني بذكائها وعمرها الصغير. ودمشق سابقاً كانت أرحم من اليوم، فهي من حمل تسمية «أمّ الفقير» على مدى سنوات وسنوات، وأنا مؤمن بقاعدة: «إنه لا شخص بذل مجهوداً ليضيع، وعلى الإنسان أن يقدّر الأشياء بقدرها».
الرسم في السعادة
في بداية وجوده في دار المسنين كان يمارس الرسم ولم يبتعد عن ريشته وألوانه إلا أنه بعد أعوام، لم يعد جسده قادراً على التعب والجهد الذي يتطلبه الرسم، وخصوصاً أن الفنان الراحل البحرة إن أراد أن يرسم فلا يرسم لأقل من عشر ساعات، الأمر الذي أتعبه جسدياً وهذا ما باح به «وأنا في أول سنتين جئت بهما للدار «دار السعادة» كنت أرسم بشكل محدود، فلقد كان الأمر سهلا علي وخصوصاً بسبب بساطة أدواتي التي تتألف من لوح خشبي أضعه على ساقي والحبر والفرشاة أمامي».
أولاده في رسوماته
رفض الراحل ممتاز البحرة الزواج مرة أخرى، فهو يعشق أولاده الثلاثة ويذكر تفاصيل طفولتهم الدقيقة، وهذا أمر واضح لأن رسوماته ألوانها وخطوطها ممزوجة بالعاطفة والدفء ومعبّرة عن الحنان، وفيها انعكاس كبير لأولاده خاصة ولكل طفل سوري، ولكن ورغم عشقه للرسم إلا أنه لم يشجع أولاده على امتهانه بل أراد منهم أن يمتهنوا أموراً أخرى كي يتلافوا ما تعرّض له من مشاق قائلاً: «لدي ثلاثة أولاد، ابنتي «نوال» وهي مهندسة مدنية ورسامة هاوية، وابني الأوسط «محمود» واسمه على اسم أبي وهو دكتور صيدلاني مختص في صناعة الأدوية وابني الصغير «فارس».
كل أولادي يرسمون ويحبون الرسم ولكن لم يتابع أي منهم الرسم، وكانوا يقولون لي نريد أن نرسم فكنت أقول لهم إذا أردتم وكانت رغبتكم فادرسوا الرسم، ولكن درب الرسم صعب وأنا أعرف مشاقه وكنت قد جربته وأعرف كم يصعب كسب قوته».
وطني عاملني بمحبة واحترام
ممتاز البحرة رجل طيب النفس، لا يحقد ولا يكره، ولا يجرّح نفسه بألم المرارة رغم من أساء إليها، بل يكتفي باحتضان الجميل من الماضي مع قناعة كبيرة وثقة أكبر بما لديه من محبة وامتنان لنفسه أولا وللآخرين، ومن ثم لوطنه الكبير حسب ما قال: «لا أملك أي شعورٍ بالمرارة أبداً، وأحياناً أشعر بأن ما أخذته أكثر مما استحقه، حتى في مرحلة التعب وفي مرحلة السجن، وفي مرحلة تحصيل الحدّ الأدنى من العيش، وأذكر أنني مررت في مراحل صعبة فلم أتمكن مثلاً من شراء بذلة لي بعد زواجي لمدّة أكثر من 20 عاماً، وعلى الرغم من ذلك أنا لا أشعر بالمرارة أبداً.
فقد وصلني أكثر من حقّي ولا شعور لديّ بأنني أنتظر المقابل، ومنذ كنت أعمل وأقدّم اعتدت ألا أنتظر شيئاً، بل دوافعي للعمل هي المحبّة والاحترام، وأنا من النوع الذي يدافع عن حقّه ولا أتنازل عنه مطلقاً، لكن أذكر أنني كنت أخجل في بدايات العمل من المطالبة بأجرتي، لكن التجربة علمتني مع مرور الوقت وخاصّة بعد الزواج المطالبة بالحق.
وأنا لا أحبّ مطالبة بعض الأشخاص بتكريمهم بل أطالبهم بالشغل.
مثلما عاملت الشخصيّات التي رسمتهما بمحبّة واحترام وإخلاص، كذلك الناس في وطني عاملوني بالمحبّة والاحترام والإخلاص».
نبذة عن سيرة كبير
توفي الفنان التشكيلي ممتاز البحرة بتاريخ 16/1/2017 في دار السعادة للمسنين، رحل من أعطى للطفولة الفرح بالألوان، رحل من ربى أجيالاً على التفاؤل والتطلع نحو الأفضل، رحل أب الطفل السوري بعد أن ترك بصمة لا يمكن لأي ظرف أو شخص أن يستطيع التأثير فيها في كل مراحل ومحطات حياته والتي سنوجزها في السيرة التالية:
محمد ممتاز البحرة (من مواليد 5 أيلول 1938) فنان تشكيلي ورسام كاريكاتير سوري، ينتمي إلى عائلة دمشقية، لكنه بحكم عمل والده الرياضي والمربي الأستاذ محمود البحرة آنذاك كمفتش لمادة التربية الرياضية في مدينة حلب، كان التوقيت مناسباً بأن يكون مسقط رأسه مدينة حلب. تربى ممتاز البحرة في بيئة دمشقية محافظة وهو أكبر إخوته، وقد عاشت العائلة أغلب الوقت في مدينة دمشق (منطقة الإطفائية) لتنتقل فيما بعد إلى حي المهاجرين الحديث نسبياً في ذلك الوقت. كان له من العمر خمسة وعشرون عاماً عندما توفي والده عن عمر لا يتجاوز الواحد والخمسين عاماً الأمر الذي أثر به كثيراً ولكن لم يدفعه للتقاعس عن حمل المسؤولية وتولي رعاية أخويه. بدأ دراسة الفنون في مصر بالقاهرة إبان الوحدة بين سورية ومصر مع زملاء سوريين مثل نذير نبعة والدكتور غازي الخالدي ومصريين مثل محمد اللباد، لكن وفاة والده في السنة الدراسية الرابعة والانفصال بين الإقليمين السوري والمصري حالا بينه وبين إنهاء دراسته في مصر، وبوفاة والده عاد إلى سورية، الأمر الذي اضطره للبدء من السنة الثانية لإكمال دراسته بـجامعة دمشق في كلية الفنون الناشئة، بعد أن كاد ينهي دراسته في مصر فتخرج مع دفعة الخريجين الأولى لكلية الفنون اختصاص تصوير فني (أي رسم فني) حاصلاً على بكالوريوس الفنون الجميلة وكان من المتميزين بدفعته ومن مدرسيه محمود حماد وحسين إسماعيل ومحمود جلال، وسعيد تحسين. بعد التخرج عمل مدرساً للفنون الجميلة لمدة /23/ سنة، بدأ فيها من مدينة الحسكة في شمالي سورية لمدة سنتين في معهد إعداد المدرسين، ليعود فيما بعد للتدريس في مدينة دمشق في عدة ثانويات دمشقية ومعهد إعداد المدرسين، لكنه وجد أنه من الصعب الجمع بين التدريس وعمله الفني فاستقال مبكراً. كما عمل بالصحافة فكان يقوم برسم الكاريكاتير والرسوم المصاحبة في الجرائد اليومية.
ومن الصحف والجرائد التي عمل بها جريدة الصرخة السورية التي كان يصدرها أحمد علوش ومجلة الجندي وصحيفة الطليعي، وجريدة الثورة وفيما بعد جريدة تشرين كذلك عمل بمجلات عدة مثل مجلة المعلمين ومجلة التلفزيون العربي السوري وغيرهما.
يعد ممتاز البحرة من أهم رسامي أدب الأطفال إذ رسم للكتب المدرسية السورية التي تناقلها الأطفال في السنوات المدرسية الأولى فأحب الأطفال شخصياته باسم ورباب ولعل أكثر ما كان ذا تأثير جلي على الأطفال في سورية والعالم العربي رسومه للمسلسلات المصورة (الكوميكس) التي أبدع فيها فكان من المتميزين والمؤسسين لمجلة أسامة مجلة الطفل العربي الصادرة عن وزارة الثقافة في دمشق، فأمتع الأطفال بشخصيات مثل أسامة وماجد وسندباد من قصص ألف ليلة وليلة مع كتاب متميزين وقد كان من مؤسسي المجلة.
قام برسم العديد من اللوحات الزيتية إلا أنه مقل بذلك عموماً ومن أهم لوحاته لوحة ميسلون المعروضة في بانوراما الجندي المجهول على سفح جبل قاسيون ومساحتها تقريباً 25 متراً مربعاً.