الدمشقيون خصّصوا أموالاً لمن لا أهل له للاهتمام به ومواراته الثرى بكرامة لائقة ،ومبرات اخرى

| منير كيال

غدت معالم دمشق الأثرية مقصداً ومزاراً لكثير من الوفود السياحية الوافدة من شتى أنحاء العالم، ومن سورية ومن الوطن العربي. لقضاء الساعات الطوال أمام معالم دمشق الأثرية والعمرانية التاريخية، أكان ذلك أبواب هذه المدينة وسورها أم برحاب جامعها الأموي ومتاحفها، بل بسوق المهن اليدوية وأسواق دمشق الأخرى،وما تزخر به من منتجات الصناعة الوطنية.. كنت ترى وجوه هذه الوفود مشدوهة أمام كل ما تقع عليه عين أو يرف له جفن.. بما تضم هذه المدينة من روائع يمكن أن يحصل عليها كل إنسان، فهي متاحة للجميع.

أين أعمال البر؟
ونحن بهذا المجال، يجدر بنا الوقوف أمام ما كان لأهل دمشق وأصحاب الشأن والحل والربط بها من أعمال البر التي طبعت المدينة بطابع مميز، يندر مثيله بحواضر العالم، كانت هذه الأعمال على أشكال متعددة، وقد اشتهر الدماشقة وعُرفوا بها لما كانوا عليه من لطف المعشر ورقّة الحاشية ورحابة الصدر والتجمل والبرّ.. أكان ذلك بعلاقاتهم أم بسلوكهم وتقاليدهم وتطلعاتهم إلى الحياة.. وأشكال التعاضد والتحاب بين الدماشقة وإيثار بعضهم لبعض، وأيديهم الممدودة إلى الخير أكثر من أن تحصى فهم يقفون إلى جانب بعضهم كالبنيان المرصوص في السراء والضراء، على مبدأ انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فنصرة الظالم إنما هي بإرشاده إلى جادة الصواب، وجعله يحب للآخر ما يحب لنفسه. أما نصرة المظلوم فهي بإيصاله إلى حقه. فقد كان أسلافنا يعالجون الإشكالات التي قد تقع بين طرف وطرف آخر بمجالسهم، دونما حاجة إلى المحاكم. كان من له حق عند الآخر يلجأ إلى أحد الوجهاء بالحي أو إلى عميد أسرة من غبنه ويعقد له طرف الشملة ويقول له، إيدي بزنارك تأخذ لي حقي من (فلان)، يجيبه ذلك الوجيه، وصلت للحق إن كان لك حق. ثم يسمع من الطرف الآخر.. ولا يخرجان من عنده إلا وكل منهما على غاية من القبول، ولو كان ذلك على نفقة ذلك الوجيه، فكل إنسان حقه يرضيه.. والصلح سيد الأحكام.
ومن أشكال ذلك التعاضد قناعة الإنسان بما كتب له من رزق، فلا ينظر إلى الآخر إلا نظرة الإيثار والمحبة، حتى إنّ اللقمة إذا كانت بفم الواحد منهم تكاد تكون بفم الآخر على مبدأ:
ازرع الخير لجارك، تلاقيه بدارك.

مشاركة وتعاضد
كما إنّ من مظاهر ذلك التعاضد والمشاركة خروج الخيالة، ومعهم أبو علي الكلاوي رحمه الله وصحبه، وهم بلباس الفروسية الكامل على صهوة جيادهم، يتقدمون المواكب الشعبية التي تنعقد بمناسبات الأعياد الوطنية، مشاركة منهم لأفراح الشعب. وكانوا يخرجون إلى المهاجرين ويقومون بألعاب الفروسية وسباق الخيل المعروف بالجريد، بالساحة التي تمتد من أسفل جبل قاسيون، يومها لم تكن السيارات منتشرة بدمشق، كانت وسائل المواصلات بذلك الحين تعتمد على الحناطير للموسرين، وعلى عربات الترام (ترامواي) لعامة الناس، وهذا الترامواي هو الذي كان يوفر المواصلات بمدينة دمشق من ساحة المرجة وإلى المهاجرين والشيخ محيي الدين وباب توما والميدان فضلاً عن بلدة دوما بريف دمشق.
ويمكن أن نذكر من أشكال ذلك التعاضد مهاداة الناس بعضهم لبعض بمناسبات الأفراح كالأعراس والحج والختان (الطهور) وكذلك الأمر في حال كون الأسرة في شغل شاغل، حيث يقوم آخرون من الأقرباء أو الصحب بل الجيرة بواجب حمل أعباء المسؤولية ونفقاتها عن تلك الأسرة المشار إليها.
وفي العرس، كثيراً ما يكون حفل التلبيسة للعريس هديّة وكذلك سبت الملبس بل والعراضة أيضاً.

الجار بيته للجار
حتى إنّ الرجل إذا أراد أن يزوّج ابنه، والبيت ضيق أو ليس بالبيت غرفة لهذا الزواج، يستأذن الأب جاره أن يسمح له بركوب طبلة (جدار) ذلك الجار. ليبني غرفة يزوج بها ابنه فما يكون للجار إلا أن يقول لجاره إذا طبلة بيتنا ما حملت غرفة لزواج ابنك، أكتافنا بتحملها، وكذلك الأمر في مهاداة الجوار لجارهم القادم من أداء فريضة الحج، يوم كان الجميع يساهمون بحمل نفقات استقبال الحاج وما يلزم للضيافة والمباركة من شوالات الرز والسمن واللحم وحتى ضيافة القهوة والشوكلاه للزوار المباركين بعودة الحاج. والأمر كذلك في مناسبة الختان (الطهور)، التي كانت من أهم المناسبات التي تحتفي بها الأسرة في إطار من الأعراف والتقاليد كالعراضات ونحر الخراف واستقبال عراضات الأحياء المجاورة للمشاركة بالاحتفال بهذه المناسبة.
ومن جهة أخرى يمكن القول: إن ذلك التناصر والتعاضد لم يكن مقتصراً على المناسبات الدينية والوطنية ومناسبات الأفراح، وإنما كان ذلك التعاضد والتناصر يشمل المناسبات الأخرى، كالكوارث والأرزاء التي تحل بالبلد أو بإحدى الأسر من الأهل والجيران والمعارف. ومن ذلك الحريق الذي أصاب الجامع الأموي بدمشق سنة (1812م) ذلك الحريق الذي أتى على الجامع في أقل من ثلاث ساعات، يومها هب أهل دمشق وسارعوا إلى إعادة الحياة إلى هذا الجامع، حتى إنهم لم يكن بدمشق صاحب صنعة إلا وسارع ووضع نفسه وموهبته تحت تصرف الأموي.

صناديق لكف الأذى
وكان من أعمال البر ما ارتبط بكف الأذى عن الآخرين. كالأموال التي كانت تدفع ثمن الأواني التي تنكسر مع الأطفال، ومع من بحكمهم من الصنّاع والأجراء إذا الكسر كان عن غير قصد. حتى لا يتعرض هؤلاء للأذى من ذويهم أو معلميهم أو سادتهم.
ومن هذه الأعمال ما كان منتشراً بدمشق من مشيدات خيرية، وقفت لها موارد مالية للإنفاق على القائمين عليها والوافدين إليها والمقيمين بها، وما كان من توفّر المياه اللازمة للطهارة والمياه اللازمة لشرب الإنسان ومستلزماته الأخرى من هذه المياه. ولعل من الجدير أن نشير إلى المغاطس التي كانت بجوار المساجد لإسقاط الجنابة، ليتسنى للمرء أداء صلاة الفجر حاضرة مع الإمام، إذا تعذر الذهاب إلى الحمام، فضلاً عن ذلك لا بد من الإشارة إلى أن العديد من حمامات دمشق كانت مبنية بجوار المساجد، ونذكر على سبيل المثال أن هنالك أربعة حمامات بالقرب من الأموي، وهي حمام نور الدين بالقرب من باب الزيادة (الجنوبي) للأموي وحمام درب العجم (النوفرة) بالقرب من باب جيرون (النوفرة) للأموي وحمام الملك الضاهر في محلة باب البريد، وحمام السلسلة بالقرب من باب الكلاسة للأموي، والأمر نفسه لكثير من هذه الحمامات الدمشقية من حيث موضعها بالقرب من المساجد وكان بدمشق عدد لا يحصى من السبلان الموزعة بأحياء دمشق القديمة لتوفير المياه اللازمة للدور التي لا تمتلك عداداً لمياه عين الفيجة. فضلاً عن ذلك فإن الدمشقيين لم ينسوا السوائم والدواب من السبلان الخاصة بها ومن أوجه الخير التي تميز بها الدماشقة تلك الأوقاف التي خصص لها الجرايات اللازمة لتكون في خدمة المصلحة العامة.

الرفق بالحيوان
وكان من سُبل الرفق بالحيوان لدى الدماشقة ما يعرف بمدرسة القطاط بحي القيمرية بدمشق، ففي هذه المدرسة تجد الهرر (القطاط) الشاردة التي لا معيل لها ولا تجد ما تقتات به، فلهذه الهرر أن تتناول من الطعام ما تشاء من هذه المدرسة، مما يقدمه أهل الخير بدمشق.
ومن هذه السبل، ما يُعرف بمرجة الحشيش فكان معرض دمشق الدولي عند جسر الرئيس وحتى ساحة الأمويين ملاذاً تتخذ منه الخيول والبغال والسوائم الأخرى العاجزة أو المتهالكة مكاناً يتوافر الماء والعشب، ما دامت على قيد الحياة حسبة لوجه اللـه تعالى..
ففضلاً عن هذا وذاك، قد يستغرب المرء إذا ذكرنا أن للأموات الذين لا يجدون من يواريهم الثرى نصيباً من الاهتمام ممن يوقفون الأموال لمواراة الموتى الثرى، وذلك من خلال وقف حبس الميت الذي كان مقره بحي العمارة بدمشق، حيث كانوا يرجئون دفن الميت الذي أهله على نحو من العجز والفاقة بحيث لا يتوافر لهم دفن المتوفى، فكان من أموال وقف حبس الميت لمثل هذا الأمر، ذلك أن إكرام الميت ترحيله كما يقولون..

الوطن

 

Nobles News