في فرنسا، كما في سائر البلاد الأوروبية، يتواصل السجال حول البوركيني ودلالاته الثقافية، ومع تواصل هذا السجال تتعدّد الآراء وتختلف بشكل جذري. في إيطاليا، تحدّثت وسائل الإعلام عن البوركيني المحلي الذي ساد حتى ثلاثينات القرن الماضي في زمن سيطرة القوانين الأخلاقية الكاثوليكية، ورأى بعض البحاثة في ظهور لباس البحر الحريمي الشرعي عودة إلى هذا اللباس المحلي الذي التزمت به المرأة الإيطالية الجنوبية في الأمس القريب.
في "صحيفة منتصف اليوم" الصادرة في محافظة بوليا، جنوبي إيطاليا، كتب ميكال أبولينيو، مقالة حول هذا "البوركيني" الإيطالي، وفيها استعاد وصف لباس البحر في العقود الأولى من القرن العشرين، ونشر أربع صور تعود إلى هذه الحقبة تمثل بشكل ملموس التقاليد المتبعة على شواطئ بوليا في ذلك الزمن. كان للمرأة ركناً خاصاً بها على هذا البحر لا يدخله الرجال، وكانت تغطي رأسها بقبعة وتلبس لباساً طويلاً يمتد إلى أسفل الركبتين يشبه إلى حد كبير "البوركيني" الذي ظهر اليوم، ولعلّ الاختلاف الوحيد يكمن في تفصيل بسيط يظهر بعد مقارنة دقيقة بين اللباسين، إذ يغطي البوركيني "الإسلامي" ذراعي المرأة بشكل كامل، على خلاف البوركيني "الكاثوليكي" الذي يحرّر المرأة من هذا القيد فحسب. تتجلّى فكرة المقالة هنا بشكل بسيط، بعيداً عن النقاشات الفرنسية الحادة، وتستند على تصريح لسكرتير وزير الدفاع جيوكينو ألفانو، يحذر من الوقوع في فخ الحديث عن النزاع الإيديولوجي المستديم بين الدين الكاثوليكي والدين الإسلامي.
في صحيفة "الجمهورية"، تطرّق فيتو مانكوزو، إلى هذه القضية بشكل معمّق في مقالة بعنوان "الإسلام والمسيحية والسجال حول البوركيني"، وذلك بعدما قام إمام مدينة فلورنسا بنشر صور تمثل مجموعة من الراهبات يلهون على شاطئ البحر، مقارناً بين لباسهن الرهباني ولباس المسلمات الملتزمات المتمثل بالبوركيني. رأى الباحث الإيطالي أن مقام المرأة في الميراث المسيحي التقليدي يماثل إلى حدّ كبير مقامها في الميراث الإسلامي التقليدي، واستشهد بما جاء في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثية: "ولكن أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح، وأما رأس المرأة فهو الرجل، ورأس المسيح هو الله. كل رجل يصلي أو يتنبأ وله على رأسه شيء، يشين رأسه. وأما كل امرأة تصلي أو تتنبأ ورأسها غير مغطى، فتشين رأسها، لأنها والمحلوقة شيء واحد بعينه. المرأة، إن كانت لا تتغطى، فليقص شعرها. وإن كان قبيحاً بالمرأة أن تقص أو تحلق، فلتتغط. فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده. وأما المرأة فهي مجد الرجل. لأن الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل. ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل. لهذا ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها، من أجل الملائكة. غير أن الرجل ليس من دون المرأة، ولا المرأة من دون الرجل في الرب. لأنه كما أن المرأة هي من الرجل، هكذا الرجل أيضا هو بالمرأة. ولكن جميع الأشياء هي من الله. احكموا في أنفسكم: هل يليق بالمرأة أن تصلي إلى الله وهي غير مغطاة". يماثل هذا القول بعض الآيات القرآنية، ومنها: "وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم" (البقرة: 228)، "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً" (النساء: 34).
تحرّرت المرأة تدريجيا في العالم الكاثوليكي، ولم يٌسمح لها بدخول الكنيسة من دون منديل يغطي رأسها إلا منذ بضعة عقود. كما في العالم الإسلامي، حدّت التقاليد الدينية من نزول السيدات إلى البحر بشكل حر، وقيّدت الاختلاط بشكل كبير حتى مطلع القرن العشرين. في إيطاليا تحديداً، ظلّ القيد الكاثوليكي حاضراً بشكل ما، وتمثّل بمنع المرأة من ارتياد الشاطئ بمايوه عصري يكشف عن مفاتنها بشكل فاضح حتى الخمسينات. من هنا، رأى فيتو مانكوزو أن مقارنة الراهبات اللواتي نزلن إلى شاطئ البحر بالسابحات اللواتي ارتدين البوركيني لا تصحّ، فالراهبات لا يمثلن عامة النساء، كما أن الرهبان لا يمثلون عامة الرجال، فهم يعتنقون العفة والفقر والطاعة، وهم مكرّسون يتبعون الرهبنات التي إرتضتها الكنيسة وأقرتها بسلطانها، و"لا رهبنة في الإسلام" كما يقول القول المأثور.
أعاد هذا السجال إلى الذاكرة فيلما كوميديا شهيرا يعرفه كل الإيطاليين، عنوانه "النابوليتاني التركي". يعود هذا الفيلم إلى عام 1953، وتدور أحداثه في نهاية القرن التاسع عشر، وهو من بطولة "طوطو"، اشهر كوميدي إيطالي في زمننا، رغم مرور خمسين سنة على رحيله. تحت عنوان "البوركيني، كيف حاربه طوطو في فيلم من الخمسينات"، استعاد لوكا شيالو هذا الفيلم الذائع الصيت، ورأى فيه شهادة من زمن فرضت فيه الاخلاقيات الكاثوليكية والتقاليد الاجتماعية لباس "البوركيني". "النابوليتاني التركي" ليس تركيا، بل "نابوليتانيا من نابولي" ينتحل شخصية خصي تركي أرسله وجيه من وجهاء المدينة "هدية" منه كخادم إلى صديق له يخشى على شرف زوجته وابنته. بالفعل، يمضي طوطو في هذه اللعبة، ويصادق الزوجة والابنة ومن حولهن من نساء، ويتوغّل في "حريم" ناوبولي في قالب لاذع يسخر من تقاليد هذه الحقبة. ينتهي الفيلم على شاطئ بحر نابولي، حيث يدخل طوطو وحده كخصي الركن الخاص بالنساء، ويقوم بتحريرهن من لباسهن المحتشم قطعة قطعة، أمام ذهول الرجال الذين يراقبونه من بعيد.
تلك هي الحالة في جنوب إيطاليا في مطلع القرن العشرين، وهي مماثلة إلى حد كبير للوضع السائد في الإسكندرية في ذلك الزمن. مثل المرأة الإيطالية الكاثوليكية، خلعت المرأة المصرية المسلمة "البوركيني" ونزلت إلى "البلاج" بلباس البحر العصري، وسارت على دربها معظم نساء المشرق والمغرب العربي. تنقلب الصورة اليوم مع عودة "البوركيني" لشواطئ أوروبا في ما يشبه "الغزوة" التي تحرج العالم العلماني الغربي الذي نسي هذا اللباس الذي عرفه في الأمس القريب، وهو اليوم يتخبّط في مواجهة ها الواقع الجديد.