د. سهيل زكار.. رحلة مؤرخ عاشق

على امتداد عطاءاته المعرفية ووجهها التاريخي والتوثيقي والبحثي الحصيف، ظهر د. سهيل زكار رجل علم ومعرفة، وهاجسه الحقيقة في وجوهها المختلفة، من تنكّب الدرس وشغف الكشف وقراءة التاريخ، لكنها من زاويته ستبدو أكثر خصوصية وخصوبة، ولاسيما أنه المسلح بمنهج علمي وبرؤية تفيض على ما نعرف، وبأدواته كباحث موسوعي اجترح وأضاف، فكان بما أنجزه علامة في ثقافة متجدّدة تتغذى بمرجعياتها وبإرثها الموصول ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

في المهاد الأول..

ولد د. سهيل زكار في مدينة حماة عام 1936، ولأسرة من الطبقة المتوسطة، إبان الانتداب الفرنسي على سورية، لكن الفتى سهيل الذي اضطر لترك مدرسته وجد نفسه قارئاً لكتب التاريخ، وشغوفاً بالمذاهب والتيارات الفكرية على الرغم من حداثة سنه، بل إن شغفه للعمل حمله على أن يتابع دراسته الخاصة ويتدرج فيها مُعاركاً شرط الحياة وقساوتها، ليصبح مدرساً ومعيداً في كلية الآداب، بعد تخرجه عام 1963، ومنها حالفه الحظ ليذهب إلى انجلترا، ويدفع لوزارة الثقافة آنذاك كتابين مهمين حققهما هما، «طبقات خليفة ابن خياط، وتاريخ خليفة ابن خياط»، ولعلّ الظروف التي تضافرت لتعاضد في وعيه حباً للعلم والمعرفة، في مقابل أعمال بسيطة كان يقوم بها، هي من شكلت في مقدماتها لديه دافعاً قوياً لأن تكتسب شخصيته العديد من المزايا والسمات الفارقة، ومنها دأبه على متابعة تحصيله العلمي غير مكترث آنذاك بخسارة عائلته لمورد مهم في حياتها وهي «التجارة».

وفي لندن أواخر عام 1964، كان له أن يدخل مدرسة «ديفيز سكول» ليتعلّم الانكليزية ويتقن اللغة بشكل تام، ولعلّ المصادفات السعيدة التي قادته للمستشرق الإنكليزي الأشهر «برنارد لويس» قد كان لها الأثر الكبير ليعمل تحت إشرافه، متابعاً تحصيله العلمي وفي الوقت نفسه مسافراً إلى العديد من البلدان منها تركيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا، بهدف البحث في المخطوطات ليحصل على الدكتوراه عام 1969، لكنه رفض عرضاً من برنارد لويس، بأن يكون أستاذاً جامعياً في انجلترا، وعاد إلى سورية، ومنها تابع التدريس في لبنان والمغرب وبعض البلدان العربية.

حُلم سهيل زكار

بعد الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد، ظهر نشاط سهيل زكار العلمي، وتجلّى في أكثر من مستوى ولاسيما مشاركاته في الندوات المتخصّصة والمؤتمرات العلمية، لكنه كان أكثر ميلاً للتاريخ، الذي كان حقل اختصاصه وشغفه الأول، ليظهر كتابه في اثني عشر مجلداً والذي جاء بعنوان «بغية الطلب في تاريخ حلب» ليأتي عام 1991، وفيه حقق حلمه بإصدار كتاب موسوعي كبير عن تاريخ الحروب الصليبية، إثر موافقة الرئيس الأسد على مشروعه، ذلك المشروع هو على مستوى العالم بطابعه الشامل والذي قوامه 45 ألف صفحة، وقد كانت له فلسفته لمن يعملون في تاريخ المنطقة العربية، بوجوب إتقانهم لثلاثة فنون هي التحقيق والترجمة والتأليف، وفي هذا الصدد يقول د. سهيل زكار: إنه في موسوعة الحروب الصليبية يستخدم نصوصاً محققة ومترجمة، وأن معالجته للحروب الصليبية اضطرته لاستخدام مصادر كُتبت بالسريانية والأرمنية واليونانية والألمانية والصينية والمنغولية، وتفسيره في ذلك هو تقديم صورة بانورامية واقعية لأحداث الحروب الصليبية، لأن الحدث كان ممتداً في كل مكان من العالم.

المفطور على حب التاريخ

ما وقر في وعيه منذ البدايات هو تلك العلاقة مع التاريخ، ليس بوصفه حدثاً مضى وطُويت أوراقه، بل بوصفه حدثاً يؤسس لما بعده، ولهذا وجدناه وهو يحقّق عشرات الكتب ويقلّب في مناهجها كباحث ويقف عند لحظاتها الفارقة كمفكر، ويذهب في إثر تفاصيلها المتواترة كباحث، هو في ذلك ينطلق من فلسفة خاصة هي أن التاريخ لا ينتهي بأحداثه الكبرى والصغرى ورموزه، ولطالما كان هاجسه الكبير هو البحث عن الحقيقة في شتى وجوهها، فإن هذا البحث سوف يكلفه العناء والسفر والسهر واليقظة المعرفية التي ميزته وهو يقارب الحوادث الشهيرة في التاريخ، لينتهي إلى حلم آخر إضافي هو تاريخ القدس أيضاً، وهذه السمات شكلت لديه وعياً تاريخياً متقدماً وكثيراً ما ناله التشكيك من خصومه بمقدرته على الوصول إلى القول الفصل في أحداث الماضي والذهاب إلى الأثر الحضاري المؤسّس في بعدي الزمان والمكان وجدليتهما مع الإنسان، لكنه وبكثير من الصمت والجلد استمر في تحقيق أبحاثه منطلقاً من أن التاريخ علم وفن ومعنى، أكثر من اكتراثه بمن شككوا بحقيقة جهوده المعرفية وعلائقها مع ما حققه على مستوى البنية الفنية وقيمة الأثر التاريخي.

معنى المؤرخ والمحقق

وهكذا وجدنا أن نظرة د. سهيل زكار لمعنى المؤرخ والمحقق وفي سياق الترجمات التي عمل عليها خلال أبحاثه، وأولى كتبه تُحيلنا إلى السياق العلمي المسلّح بمنهج دقيق ولاسيما على مستوى الترجمة التي انفتح بها على غير لغة، ومنها اشتق ما يمكنه كباحث ومؤرخ من أن يقف على تلك المشتركات الحضارية التي تؤلف بين الأمم والشعوب والحضارات، وليس أدل من ذلك سوى دأبه وتواضعه وقراءته المستمرة التي لم تنقطع يوماً، ليعكس صورة ذلك الباحث الذي يكتب ويقرأ وينقح ويصحح، وفي ذهنه اعتقاد راسخ أنه لم يصل إلى ما أراده تماماً.

وما أراد قوله هو أن كل الدنيا مثارة الآن بالأبحاث والعقائد الدينية ويدلّل على ذلك بالصور المسيئة للرسول (ص) التي اعتبرها جزءاً من الجو العام الذي يعيش فيه ولابد له من مقاربة المعرفة كاملة، ومازال يردّد أنا عدو للصهيونية رغم كل ما كتبته بحثاً وتنقيباً عليها.

ويرى في سياق آخر حول نظرته للأعمال التلفزيونية السورية التي تقوم بإعادة سرد التاريخ درامياً، خاصة وأن له تجربة في مراجعة مسلسل «فارس بني مروان»، أنه أسهم في بعض الأعمال وأشرف عليها وحاول أن يكون دقيقاً إلى أبعد الحدود بدقة النصوص ودقة الواقعة، ويلفت إلى أن كثيراً من المسلسلات يُعطى الإشراف العلمي فيها إلى غير المختصين، وبالتالي يكون هنالك خيال يؤدي إلى أن تكون الأعمال غير كاملة.

رؤية للاستشراق

إن شمس الاستشراق غابت عن كل أنحاء الدنيا، وحتى جامعة لندن التي درس فيها، هذا ما يقوله د. سهيل زكار الذي رأى في جامعة لندن اهتمامها بالشرق الأقصى أكثر من اهتمامها بالشرق الأدنى، وأن كبار المستشرقين الذين كانوا في الماضي انتهى جيلهم، والاستشراق كان له إسهامات كثيرة، لكن لا يوجد مستشرق يمكن تسميته منصفاً أو صديقاً للحقيقة العربية، إلا ويمتلك نوازع، ومعظم المستشرقين الأوائل كانوا من رجال اللاهوت، والآن فإن كل الأعمال الاستشراقية تقريباً هي تحت إشراف الصهيونية.

ويؤكد د. زكار انتماءه لماضي الأمة فهو بتعبيره محصلة من محصلات الحضارة العربية التي صنعها كل أفراد الأمة، وهذا الانتماء يجعله حيادياً بين الجميع فهو لا يكتب في تاريخ ولا يصدر فتاوى ولا يمنح شهادات إيمان، بل يحاول قدر استطاعته أن يكون علمياً ووثائقياً، ويشرح ذلك بالقول: ويبدو أن العلمية والوثائقية تغضب كثيراً من الناس.

مع رؤيته أن ثمة إقبالاً من الناس على درس التاريخ، يتمنى الإفادة من الشاشة البيضاء «التلفزيون»، لكنه يذهب أكثر من ذلك ليؤكد ضرورة تقديم صورة للتاريخ صحيحة، فالكتاب عندما يُطبع على تلك الشاشة سيراه مئة مليون، وثمّة صور يتمناها الإنسان أن تكون مشرقة.

عصر الاستشراق.. أم عصر الديانات؟

لا يختزل د. سهيل زكار رؤيته للاستشراق انطلاقاً من علاقته بالمستشرق الإنجليزي برنارد لويس وتحصيله العلمي الذي قاده إلى اكتشاف المخطوطات والتحقيق فيها، بقدر ما يكثف نظرته لخطوات البحث العلمي في درس التاريخ، أي الحيادية والنزاهة والموضوعية، وضرورة أخذ أطراف الحقيقة مجتمعة، ومن ثمَّ مقاربتها على نحو يبدو أقرب للحقيقة، من ذلك علاقته بالتاريخ الإسلامي ووجوهه المختلفة وإشكالياته المتعددة، مقارنة ببحثه الكبير والمفتوح عن الحروب الصليبية، في مقابل أبحاثه عن تاريخ القدس التي يذهب إلى كتابة موسوعتها الضخمة بهمّة وانتباه ليحقق معادلة السفر في الزمان والمكان، وليس عبر الأوراق فحسب، وإن الدخول إلى عوالمه البحثية سيشكل مغامرة لافتة لرجل أخلص للعلم منذ أن شُغف بدرس التاريخ مع نعومة أظفاره، ومنذ اتصال ذائقته بنظرية المعنى في التاريخ، فالتاريخ لديه ليس مجرد وقائع جرت في أزمنة بعينها، بل ثمة علائق ستبدو في لحظة المعاصرة ذات صلة قوية انتباهاً لسياقاتها وحوادثها التي ربما تتكرر بغير طريقة، ما يجمع لديه الموسوعية المنشودة هو بعد نظرته في تلك الحقائق، على أنها حقائق غير منتهية بفضل نظرية المعرفة التي انفتح عليها –زكار- واستطاع منها أن يولّد ذلك المنهج الأكثر خصوبة في مقاربته لمرويات التاريخ وحوادثه ووقائعه الكبرى.

شخصية امتلكت جرأة المعرفة وتماهت مع شرطها لتُنتج فهماً واعياً للماضي والحاضر والمستقبل، وفي تلك الجدلية ظل د. سهيل زكار علامة على دأب رجالات العلم في جعل التاريخ حاضراً وناطقاً بالوقائع الدالة، رغم ما اعتور مسيرته العلمية في غير مكان من مفارقات لم تثنه عن مواصلة أبحاثه المعروفة وانتظارها لأزمنة أخرى بكفاءة المعرفة ونضارة الحقيقة وإخلاص الباحث، ذلك هو الدرس المستخلص من تجربته ومسيرته العلمية والحياتية بآن معاً، فهو لا يبرح مكتبته إلا قليلاً بما يعني وجوده في الجامعة لاستئناف الأطروحات الجامعية عنه، أو شيء من التدريس الضروري، ففي كل مرحلة من مراحل حياته العلمية يؤسّس لمشروع جديد، لا يعني انفصالاً عما بدأه بقدر ما يعني استئنافاً للمعطيات التي يُراكمها ويسافر من أجل تدقيق وثائقها، ليقف على صيرورات تلك الذاكرة التاريخية المدهشة في عوالمها وحقائقها اللامنتهية.

د. سهيل زكار.. سطور وعناوين

– باحث ومحقق تاريخي ومترجم ومؤرخ سوري، يعدّ من أكبر المؤرخين للحروب الصليبية في منطقة الشرق الأوسط خلال العصر الحديث.

– ألف نحو 260 كتاباً أشهرها موسوعة الحروب الصليبية، التي تحوي 95 مجلداً من أهم وأدق وأشمل ما كُتب بالعربية عن الحروب الصليبية.

– من مؤلفاته: أخبار القرامطة (تحقيق)، مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية، ماني والمانوية، مختارات من كتابات المؤرخين العرب، إمارة حلب في القرن الحادي عشر الميلادي، الإعلام والتبيين في طروح الفرنج الملاعين (تحقيق)، الانحياز (ترجمة)، تاريخ العرب والإسلام، تاريخ يهود الخزر.

– كثيراً ما وصفه طلابه بأنه جبل شامخ من العلم والاطلاع، وسعة الأفق والمعرفة.

– يقول د. سهيل زكار: أنا لا أحترم إنساناً في القرن الحادي والعشرين لا يحمل هوية الانتماء للوطن.

– يقول أيضاً: أنا أكتب في التاريخ ولا أصدر فتاوى، لا أكفر ولا أمنح شهادات إيمان.

– يقول: عندما يعتقد الإنسان أنه وصل إلى مرتبة عالية فهذا كفيل بجعله يقف ويبقى يراوح في مكانه.

– يحرص في حواراته وإطلالاته الإعلامية على التكلم بلغة لا تعني انحيازاً أعمى، بل تعني جهده للتوازن والإنصاف، والدقة فيما يقوله من معلومات، ولاسيما إذا اتصل الأمر بشخصيات بعينها، وبسياقات خاصة.

جهينة

Nobles News