صدر منذ ايام كتاب السيدة الدكتورة نجاح العطار (الثقافة قمر لا يغيب) ليعزز دور الثقافة، وليظهر قدرة الثقافة على الفعل والإنارة مهما كان الظلام شديداً، وكانت الظلمة حالكة، وهذا الكتاب يشكل وثيقة، بل مجموعة من الوثائق النادرة التي لا تقل قيمة عن أي وثيقة سياسية، إن لم تزد، في إبراز دور الثقافة، ودور سورية الثقافي في جلاء صورة السوري وثقافته، وذلك من خلال قلم صنع من فصاحة وأدب وانتماء عبر مسيرته الإبداعية والثقافية، لا لبس فيها ولا غموض في رسالته، ولا إقواء ولا لحن، إنه لسان سوري فصيح عالي العبارة يمثل الثقافة السورية في أبهى صورها..
ملتقيات ومؤتمرات
تحدد الدكتورة العطار منطلقاتها في المقدمة، فقد يتساءل أحدهم عن جدوى جمع هذه الكلمات بين دفتي كتاب! ولماذا تأخر جمعها كل هذه السنوات؟ لذلك تستبق المؤلفة وتقدم التسويغات اللازمة، وهي ليست من باب التسويغ بقدر ما هي من باب تحديد المسؤوليات الملقاة على عاتق المثقف، وتحديد مسؤوليات المثقف في زمن الأزمات، ونكتشف في المقدمة أن ما يعصف بسورية ودورها الحضاري والتنويري هو من أسباب جمع هذه الكلمات ونشرها، والمنطلقات كما حددتها د. العطار:
1- الفعل الثقافي ودوره: «الكلمة سيدة الكون، إنها البدء فعلاً، والبدء حكاية، منها كان التكوين، وما قصه علينا من أسطورة الخلق، وهي، الكلمة» هذا الإيمان بالكلمة والفعل الثقافي غاية في الأهمية، لأن من لا يؤمن بما يقوم به ويقدره صار إنجازه يعاني العرج أو الكساح، إن لم نقل الموت! ترى هل وصلنا إلى ما وصلنا إليه من جاهلية إلا لأننا فقدنا إيماننا بالكلمة ودورها؟ هذا الإيمان هو الذي دفع الدكتورة الأديبة لإعادة النظر في الرسالة الثقافية، وإعادة النظر لن تكون من خلال مقالات ودراسات فحسب، بل من خلال التجربة المختمرة التي وضعتها أمامنا.
2- الثقافة والحوار: الثقافة ترفض التعسف والظلم والإلغاء، ومن هنا كان المنطلق الثاني لما قدمته، فهي لم تقدم دراسات تنظيرية، بل إن ما في الكتاب هو حوار مع الآخر، ويخرج من التحدي للذات، والخروج إلى آفاق واسعة، وبوعي مطلق تحدد الكاتبة الأديبة أهم أساس من أسس الحوار، فهو ثقافة، وهو قائم على الندية، فما من حوار يمكن أن يعطي نتيجة وفي الأمر استعلاء أو ما شابهه من أي أمة أو أي طرف «نسعى وسنظل نسعى إلى حوار مفتوح، على أساس الندية، بين الوطن العربي والعالم، وتطوير هذا الحوار وصولاً إلى التفاهم المنشود» ولا يكون هذا الحوار إلا بالثقافة، فهي وحدها القادرة على حمل الرسائل ونقلها، فهل أعطينا الثقافة حقها؟!
3- السعي إلى الآخر وحواره: «مشروعنا الثقافي الكبير الذي عملنا على تحقيقه، ذات يوم، كان ينطوي على توجهات كثيرة منها أن نزرع كلماتنا في أرجاء كرتنا الأرضية، لتكون جسور تواصل إنساني بنّاء» بقدر ما يسعد الإنسان بهذا المشروع الثقافي الكبير، يألم من الفعل كان، ويسأل ما الذي دفعه إلى هذه المكانة؟ وما الذي جعله كان وتخلى عن الصيرورة؟ المشروع الثقافي الكبير والتواصل مع الآخر في الكرة الأرضية، وجسور التواصل كلها آمال المشروع الثقافي لماذا كانت ولم تعد؟!
خاصة بعد أن عرف من عرف منا أن الآخر يجهلنا، وليس معنياً بنا كما قد يظن متضخم الأنا، وعلينا نحن أن نحمل أنفسنا إليه، وهذا ما سنراه من المشروع الثقافي الذي كان.
4- ثبات الفعل الثقافي: لعلّ أهم ما جاء في تقديم الدكتورة العطار لهذه الوثائق تأكيدها أن الثقافة ثابتة لا تتغير، وهذا يعطف على ما سبق، فإن تغيرت قناعات، فإن الثقافة وحدها لا تخضع لمعايير التغير، وتحافظ على ثباتها لأنها راسخة، وهذا يؤكد أن الثقافة صاحبة الدور الأهم الذي يتقدم على كل دور «هذه النصوص كتبت في ظروف دولية مختلفة وكانت الأوضاع لا توحي، آنذاك، بحجم المؤامرة التي استحكمت في أيامنا هذه، حاملة معها هواجس الاحتلال الذي هيمن، في النصف الأول من القرن الماضي على بلداننا.. ومن الجدير أن نذكر أن صداقات مهمة قد بنيناها، آنذاك، في عالم الثقافة مع مثقفين كبار، وأكاديميين وإعلاميين، فرنسيين وإسبان تخصيصاً، ولدي معهم ومنهم، مراسلات ورسائل ذات شأن، ولا أظن أنهم تغيروا، الذي تغير هو ساسة تلك البلدان».
وهذا يدفعنا إلى الإيمان بالفعل الثقافي أكثر، وبأنه يمكن أن يفعل الكثير في مواجهة السياسات الظالمة والمتحولة والجائرة التي تؤثر في البلدان وشعوبها، لكنها تعجز عن الوصول إلى قناعات المثقف الحقيقي.. ترى لو استمرت عملية بناء الجسور الثقافية بالوتيرة نفسها كمشروع مهم ومستقل ألم تكن النتائج أفضل؟!
أقول هذا لأن هذه الأحاديث ليست وليدة مرحلة الوزارة عند السيدة الدكتورة نجاح العطار، فبعضها ينتمي إلى مرحلة سابقة ولاحقة، لكن كل ما في الكتاب ينزل تحت إطار المشروع الثقافي الكبير..
صرخة فاعلة
ابتداء من العنوان تطلق السيدة الدكتورة نجاح العطار نداءها (الثقافة قمر لا يغيب) داعية إلى إيلاء الثقافة دورها الحقيقي المهم والقادر والفاعل، ولو كانت هذه الصرخة صادرة عن واحد آخر لكان فيها مآرب أخرى، أما أن تصدر عمن عانت الثقافة وخبرت دورها فذاك أمر آخر يحتاج منا إلى مراجعة متأنية، وفي حديثها عن المثقفين الغربيين إشارة واضحة إلى ضرورة التواصل مع المثقفين الذين يتولون بناء الجسور الثقافية بين البلدان ويتكفلون بإيصال الحقائق الحضارية، ولا يجوز بحال من الأحوال ونحن نقرأ هذا النداء أن نتعامل مع الثقافة والفعل الثقافي على أنه نافل القول والفعل، وعلى أنه مجرد تزيين بروتوكولي، وخاصة نحن نرى الاهتمام الكبير بالمؤسسات الثقافية ودورها ومطبوعاتها، فالثقافة فاعل، وليست مجرد بروشورات دعائية تحمل أهدافاً داخلية بحتة.
ولو استعرضنا الدراسات والكلمات والأبحاث التي يعود أحدها إلى عام 1966 في المشاهدة فإننا نجد أن الأمر بحاجة إلى تواصل، وهذه الأبحاث توزعت في أصقاع العالم، منها ما كان في الداخل، ومنها ما كان في الخارج، ولم نجد في هذه الدراسات الظواهر البروتوكولية، وإنما وجدنا القراءة الصحيحة للواقع الثقافي، ولدور المثقف، فهل تطورت النظرة التي قدمتها د. العطار في برازيليا 1988 عن الجانب العربي أم تراجعت؟!
«الثقافة بناء فوقي، يعكس الكثير، بل مجمل ملامح البناء التحتي، والاقتصادي والاجتماعي، ويترجم عن الواقع المادي في صيرورته نتاجاً، من خلال العمل الذي يتضمن النتاج الفكري أيضاً، باعتبار المثقفين منتجين فكريين، يصوغون الواقع في إبداع، ويعبرون عنه في حالة ارتقاء، فإذا كان هناك نظام وطني وقومي فلا بد أن يعكسوا ثقافة وطنية قومية تقدمية إنسانية».
هل ما نعيشه اليوم هو نتاج ثقافتنا الوطنية والقومية؟ هل استطاع المصلحيون أن يغيروا من مهمات الثقافة؟ نسأل عن الأسباب، والإجابات كفيلة بتغيير دفة القيادة للاستفادة من التجربة مهما كانت هذه التجربة مؤلمة! والمثقف هو شيء مختلف، ولن يؤدي دوره إلا إذا آمنا بتميزه «لكن المثقف العربي، وهو الأساس في إنتاج الثقافة، مثلما هو دعامة من دعائم نهضتها جدير بأن توفر له الأسباب الكفيلة بأن يعمل وهو ناعم البال، معيشة، وحرية، وإمكانية، وأن نحصنه من الأذى، كي يقوى على دفع الأذى، عن وطنه وشعبه وأمته، وأن نفسح له كي يقول ما يريد قوله من دون خوف، ذلك أن المثقف ثائر بحكم دوره التاريخي، يعي أن الثورة هي صنع المستقبل، ومن دون مشاركته لن تكون هناك ثورة» هذا ما قالته د. العطار في دمشق عام 1980 عن إيمان بدور المثقف، والأمر كذلك.
كان من المفترض أن يتقدم المثقف خطوات، وأن يصبح أكثر من ناعم البال، وأن يشارك في صنع المستقبل، لا أن يكون أداة هدم، وأن يتحول إلى عصا غليظة بأيدي المتآمرين على الوطن ومستقبله.. وعلينا أن نسأل: لم تحول عدد من المثقفين المزعومين، والذين وليناهم الثقافة إلى جانب الدمار لا المستقبل؟!
ســـؤال مهـــم أزعـــم أن نشــر هذه الدراسات يجيب عنه.
«الثقافة قمر لا يغيب» حديث عن ثقافة فاعلة، وتحسّر على دور مهمش مفتقد، ودعوة إلى وعي الدور الثقافي الذي لا يكون إلا بالمثقف المملوء وطنية وقومية وثقافة وانفتاحاً على الآخر.
ومرة أخرى تقدم د. العطار للحركة الثقافية كتاباً وثائقياً غاية في الأهمية والقيمة، إلى درجة تفوق النص الإبداعي بلغة إبداعية هي السحر والتفوق، لتحدد للثقافة دورها، وللمثقف رسالته.