السلام، مفردةٌ، مصطلح، يتداول في شأنه الإنسان منذ تكوناته البدئية تاريخياً، إذاً، بالمفهوم العام لا أحد ينشد الحرب، وللفصل بين المفردتين أنشأت البشرية منذ تأسيسها، القوانين الوضعية المستقاة في الغالب من رؤى ميتافيزيقية، تدغدغ الغرائز الأولى لأبناء آدم المفطورة على إبعاد الخوف،أي إحلال السلام له كفرد، أو كمجتمع فرضه الانتماء لعرق بعينه، أو فرضته التقسيمات الجغرافية، وخاصة في العصور الّتي تلت خروج الإنسان من الكهف، لكن تلك القوانين تماهت مع إحلال الحرب كثقافة، ورسخت قيمها الدموية مع إحالة السلام إلى الأدبيات المفترضة وجود السلام، أو الارتقاء بهذا المفهوم إلى قممه، فأحلت في العصور الحديثة مفهوم الدولة الإقليمية وربطتها مع اتحادات -منظمات تجمع الدول الأعضاء تحت مرجعية واحدة، واستطاعت إلى حد ما فرض الغاية المنشودة داخلياً وخارجياً، أي إبعاد الحرب عن الإنسان كفرد وكمجتمع، وهذا بحدّ ذاته ما عزز مفهوم “الدولة” الحديثة كعقد اجتماعي يجمع الأفراد تحت رايتها، مع ترك الأفراد الحرية للدولة كنخبة سياسية تمثلهم لإقامة التحالفات أو الانضمام إلى منظمات تساعدها على إحلال سلطتها، فالفرد -المواطن العادي- لا تعنيه تلك التحالفات إلّا بما توفر له من أمان واستقرار ورفاه اقتصادي، أيّ بالمفهوم العام بقدر ما توفر له من سلام سواءً على صعيد مجتمعه، أو من خلال انضوائه تحت جغرافية إقليمية محددة..
هذه القناعة هي ما وصل إليها كلّ سوري بعد تتابع الأيام الطويلة الّتي تحمل مع كلّ ثانية منها موتاً لكلٍّ منهم، فالدولة بالنسبة له هي الحضن الآمن، هي الّتي تجمعه مع جاره، هي من تعالجه من المرض عبر مشافيها، هي من ترتقي بأبنائه إلى العلا من خلال مدارسها، هي الّتي تجعل منه شريكاً مع من لم يلتق بهم من قبل من خلال شوارعها المحكومة بالقانون الّذي يمنع الاعتداء على الآخر، هي من تؤمن له أمناً غذائياً، وتراقب صلاحية المواد الغذائية المطروحة في الأسواق، وحصرها ضمن سعر معين، هي من تجعل بيوته مضاءة ليلاً، هي من تجعل سهرات السّمر الدافئة متاحة له متى أراد، لذلك هبّ للدفاع عنها، فهو قد اكتشف أنّ وجودها يعني وجوده بالذات، مثلما اكتشف أن الفوضى الخلاقة الّتي نادى بها الغرب الأمريكي لا تأتيه إلّا بـ«ميليشيات» تلتهم حياته وحياة أسرته سواءً على دفعة واحدة أو على دفعات متتالية، مهما كان خطابها يدّعي البراءة..
الإنسان السوري وهو يراقب ما جرى في «جنيف3» تعززت عنده تلك القناعة أكثر، وهو يرى ويستمع إلى الخطابات الّتي زُورت لتُلقى باسمه، كما أنّه لا يريد أن يكلف أحداً ما عناء السفر، وترك سريره الدافئ، ليأتي إلى الأمم المتحدة، ويحدثه عن الحق والعدالة وحقوق الإنسان، ويحدثه عن عدد اللاجئين، وعن الجياع والوضع الإنساني المتردي لمخيمات اللجوء وخارجها، وعن حالات الإجهاض وحالات الطلاق، وعن حالات الحمل غير الشرعي، وعن استغلال اللاجئات جسدياً، وعن أعداد من قضوا غرقاً في البحر، وعن المشردين والمعتوهين، وعمن أحالتهم الحرب إلى التقاعد الإنساني، ثمّ بعد ذلك يعدد مساهماته المالية والعسكرية المقدّمة هدية لإطالة أمد الحرب، بكلّ ما يحمل وجهه من سمّ أصفر يحاول به قتل كل مقومات الحياة لدى الشعب السوري..
الإنسان السوري لم يعد يثق بأي أحد، الكلّ مُدانون بالنسبة إليه، خطاب السلام مُدان، طاولات المفاوضات، الطائرات الّتي تنقل الوفود مدانة، الفنادق الّتي تستقبلهم مدانة، الإنسان السوري أخذه البرد إلى الاستلاب من نفسه، أخذه انقطاع التيار الكهربائي إلى الاستيلاء على إنسانيته من قبل الظلمة، أخذته سلة المساعدات إلى التخلي عن كرامته.
الإنسان السوري يريد دولته، مثله مثل من أتى بحجة الدفاع عنه لتدمير مقومات دولته، السوري يريد دولته، وهي وحدها المكلفة بأن تحمل اسمه في المحافل الدولية، وكلّ ما كان خارج هذا المنحى يُدخله السوري في قاموسه الحامل لمفردات الريبة من الآخر، لأنه يعي أن دولته وحدها قادرة على منحه السلام..