الحديث عن حلم المثقف «العربي»، يشبه النكتة، فهذا المثخن بالفقر والعوز والاضطهاد لا يكاد ينجو من كوابيس الفساد الثقافي والإعلامي، حتى يقع تحت سطوة التحكّم بالأفكار ومحاولات تغيير المعجم وأيضاً توظيف اللغة «بالواسطة» أو سلخ جلدها نهائياً كي ترتدي لبوس الإدارات الرديئة التي تحتاج تبريرات لغوية وشعرية ونقدية كي تخفي كوارثها وتستمر بالعمل كأن شيئاً لم يكن!.
هكذا يبدو توريط المثقف بكابوس «التجهيل والفساد» قد تم عن عمدٍ من قبل الذهنيات الأيديولوجية والعقائد الغيبية كي لا يتجرأ هذا الشخص لاحقاً على التمرد أو شق عصا الطاعة على من نسميهم فاسدين ذهنياً ومادياً، لأنه بكل بساطة شريك بالتجهيل ومساهم فيه، وتالياً فإن «البلّ سيصل إلى ذقنه» وإن كان لدوره عبر الصمت أو تغييب الحقائق وتجميل الفضيحة عند من يُفترض أن يكونوا مسؤولين عن نجاح الحالة الثقافية والإعلامية بشكل عام!. الجميع يقولون إن المشكلات الخطيرة بالأساس هي قضايا ثقافية، لكنهم يعملون في الوقت نفسه من أجل الإبقاء على المثقف «عاملاً بالأجرة» كأنه «طيّان» مهمته إخفاء عيوب الحيطان المتهالكة ليس إلا!.
ما حرّك شجون هذه القضايا، هو صدور كتاب «حلم المثقف العربي» عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2016، بتوقيع حمود علي خير، وفيه تُستعاد مصطلحات مئة عام من الفشل الثقافي وغياب المشروعات، ليختمها الكاتب بعبارة إن «الفكر القومي العربي هو البديل للفكر الديني الذي ساهم في تخلف المجتمع العربي»، مغيباً بذلك حقيقة أن هذا الفكر هو من أطلق يد رجال الدين في كل الأماكن من جرّاء نظرته غير العلمية إلى النص الغيبي، وبسبب الاتفاق الذي عُقد مع ممثلي الدين عندما أعلن رواد ذلك الفكر «القومي» أن من أهم دلائل القومية العربية هو الدين نفسه!. لماذا لم يعمد رواد الفكر القومي العربي إلى القول بضرورة فصل الدين عن الدولة مثلاً؟ ولماذا لم يعمدوا إلى المناداة بتطبيق التشريع المدني في كتبهم الفكرية؟ هل يمكن لمفكرين هادنوا الثقافات القديمة أن يبنوا مجتمعات حديثة بهذا الشكل الطوباوي؟. ربما من أسوأ مطبّات الثقافة العربية هي الشمولية، واعتقاد معظم ممثليها أنهم وحدهم من يمتلك الحقيقة المطلقة أو أن مفاتيح الجنة في جيوبهم كما يوصفون!.
تحضر في الكتاب مصطلحات العروبة الوهمية التي لا أحد يعرف مقوماتها، وربما إذا سألت الداعين إليها قالوا مباشرة إنها تتركز في اللغة والدين الذي كان يهاجمه الكتاب في فقرات سابقة، تلك الخلاصات تؤكد غياب المشروع الواضح الذي يمكن أن نسميه خشبة خلاص عن المؤسسات الثقافية والإعلامية التي تتناول المصطلحات بلا تأكيدات نقدية جريئة وصريحة، لأن حرف المعجم عن مساره عملية مازالت مستمرة منذ مئات السنين، وقد استمرت في العصور الحديثة عبر هذا التحالف بين الفكر القديم والجديد الذي تبنّى أهداف الماضي بشكل «مودرن».. لنسأل وزارات التربية والثقافة عن المشروع الذي تريد زرعه في أذهان النشء الجديد؟ ولماذا ظل القائمون على صياغة المناهج الأساسية مثل «الديانة، والقومية» هم من أصحاب الثقافات الماضوية فأخذوا العقول إلى غير مصبّاتها الطبيعية من قصد أو من دون قصد؟.
ترِدُ في الكتاب عباراتٌ مدهشة أهمها «مكتسبات الجماهير» مثلاً!. ومن غير الواضح عن أي مكتسبات حققتها الجماهير «العربية» يتحدث المؤلف، في ظل التشرذم الطائفي والعيش تحت خطوط الفقر وانتشار الفساد وفشل أهم المؤسسات في إنجاز مسؤولياتها بشأن بناء الإنسان الحديث، وهي مؤسسات التربية والثقافة والإعلام؟.
يشكل الكتاب مناسبة لإعادة طرح الكثير من الأسئلة التي تحتاج مواجهة وجرأة وعقلاً نقدياً لا يقيم اعتباراً سوى للتشريح والموضوعية في إطلاق الأحكام، وهو ما يتطلب إعادة النظر في حال المثقف ومكانته من عامل «بالأجرة» و«طيّان» يرقّع تهالك الجدران، إلى إعادة اكتشاف الواقع ورسمه على شكل «فردوس» ليست نهائية بل خاضعة للنقاش!.