«خارج المدار».. عندما تهيمن الأنوثة على السرد!

تكاد تكون هدى الجلاب في مجموعتها القصصية «خارج المدار» قاصة نسائية بامتياز ومن الطراز الأول، وهذا الكلام أقرب إلى المديح منه إلى الذم، قول ذلك لأنه ما من قصة من قصصها تخلو من امرأة تكون البطلة، تهيمن على السرد، وتبدأ ذلك من المقدمة التي نراها قريبة من القص الجميل، و تقول فيها ما يشبه السيرة الذاتية، تعرج من خلالها على الجلّاب ومذاقه الشهي واللذيذ.
فهل تُلام المرأةُ حين تكتب عن المرأة وهمومها وأحلامها؟، لا نعتقد ذلك بطبيعة الحال فخصيصة الذاتية بأنها جوهر كل نص، أو هي، ونقصد «الذاتية»، الناظم والهوية والوعي الذي يؤلف، كما يقول سليم بركات، فمتى تكون الذاتية مثلبة على النص ومتى تسجل كنقطة لمصلحته؟.
نعتقد أن الجواب يرتبط بتحاملنا على الآخر، أو بتغليبنا عنصراً أو جنساً على غيره، فقد شكت المرأة وقتاً طويلاً من ظلم وقع عليها من قبل الرجل، ونسيت أن ظلماً ما قد وقع على الرجل، ثم تجاهلت أن الظلم الأشد هو ما وقع من المرأة على المرأة، من ناحية أخرى نعتقد أن الذاتية ترتبط بالصدق المقنع حد الصدق، وبالنسبة لي قد ابتسم حين يسألني أحد الحضور عن شخصية أو حادثة ما ذكرتها في قصتي إذ أعرف في داخلي أن رسالة ما قد وصلت إلى المتلقي.  
في «زيت»، القصة الأولى من مجموعة «خارج المدار»، تتفق البطلة مع ذلك الضابط أو الجندي على موعد ولا تحضر في الموعد المحدد، وبعد أن تفتح علبة سردين تنتشر رائحة زيتها، يأتي هاتف الحبيب معاتباً، وكأن تلك الرائحة هي من شدته كي يتصل، لتعتذر منه فقد كسرت ساقها ذلك اليوم، بعد مدة «تتعافى قدمها ثم تسري أيامها متشابهة»، وإذا كنا مع جمالية هذه القصة وفنيتها ومعانيها فلسنا مع زمنها الطويل فالقصة كما يقولون فن الزمن.
في «غلطة رسم» تخرج لها والدتها لعبة قديمة خبأتها يوماً كي لا تشغلها عن الدراسة ولكنها تقول : «بربك أمي أعيديها إلى عتمة الصندوق.. الحرب حولنا دائرة والموت كثير»، وهي في هذه القصة تسقط ذاكرتها ولعبتها على الحاضر والآني الراهن ولعل الهدوء الذي تتمناه لدميتها هو ما تتمناه الكاتبة لنفسها ولنا جميعاً إذ تنتهي القصة بابتسامة البطلة فـ«باسمتها» أو دميتها تنام الآن بهدوء في صندوق والدتها، بينما يهز أعصاب المكان انفجار عنيف، وهذه المفارقة تغلب على قصص المجموعة لتأتي النهاية صادمة وموجعة في كثير من الأحيان.
في «شعور» تعتقد الزوجة أن زوجها قد أحب امرأة غيرها، وتكتشف مصادفة أن زوجها مريض حين يتصل بائع الأعشاب الطبية ليبلغه أن الخلطة جاهزة، ولعل السؤال الذي يبقى ماثلاً في هذه القصة، هو: هل الحب في الجنس وحده أم يمكنه أن يستمر من دون ذلك؟.
وفي « أحبيني» تشترط البطلة على من يطلبها أن تمطر صيفاً، وحين يتحقق ذلك تأتي زوجة الرجل وتكشف كذبته فقد سكب الماء على زجاج نافذتها ليوهمها بذلك، ونحن نعتقد أن القاصة وقعت في المطب النسائي، واعتمدت المصادفة في حل عقدتها، وفي «شيء آخر» تلك القطة التي طاردها قط فهربت منه إلى مكان بعيد ثم قررت العودة نادمة على هربها مقررة مواجهته لكن التفجير الذي حلّ بالمكان لم يستثن ذلك القط، عندها تعطف عليه، وتحاول مساعدته لكن الوقت فات، فالتفجيرات أخذت الكثير من أرواحنا قبل الأجساد، وإن عانت القصة بعض الطول وهي بحاجة إلى تكثيف أكثر، لكن رمزيتها عالية وهي ذات دلالات كثيرة تنجح بطلتها في أن تكون القطة ذاتها.
تتجلى المفارقة بشكل أوضح في قصتي «بطعم السفرجل» و«الضرة»، ففي الأولى يحضها الزوج على زيارة الجيران وعندما تفعل تصاب زوجة الجار بنوبة صرع ويحاول الاعتداء على ضيفته وفي الثانية «ترتمي على سرير يابس، سواقٍ ساخنة تسيل من عينين منتفختين، تمسح دموعاً رافضة غسيل صدأ الهموم»، فالزوج في هذه القصة يتصل بزوجته ليخبرها بأنه سيعود من سفره مع العروس، وحين يحضر راكباَ سيارته التي أطلق عليها تسمية «العروس» يجد الزوجة قد ماتت، وتلك نهاية صادمة تطرقنا لها فيما سبق.
 في«الدمى» ما يشبه ذلك فقد هجرها الحبيب لأنه ظن بها ظن السوء حيث يخبره أحدهم عن حرارة قبلتها، ثم يكتشف أن الأمر مجرد تشابه في الأسماء، وفي «فتات» تسير الكاتبة في المنحى ذاته فقد اكتشفت البطلة أن الكاتب الذي كان يعلمها الجرأة والشجاعة قد هرب بسبب الأحداث إلى خارج البلاد، وقد نستثني من هذا المسار قصة «زوايا» حيث تلك الفتاة التي جفلت منها قطة ولم تكمل طعامها.
في «خارج المدار» تقارن البطلة بين زوجها الذي يهمل جمالها ومشاعرها، و الغريب الذي يطاردها ويغازلها، ثم يخطف حقيبة يدها التي تضع فيها مسودة روايتها.
في «سؤال» تتطرق الكاتبة إلى الحرب على سورية، وما يحدث فوق تراب الوطن، ولعلها من السباقين إلى ذلك، لكن هذه القصة تقترب من المقالة إلى حد ما، ثم قدمت الكاتبة «هدى الجلاب» ثلاثة عناوين تحت مسمى نص أدبي، وهي على التوالي «من دون ماء، رسالة إلى أمي الغاضبة، موج نفس»، وهنا قد نسجل ملاحظة واعتراضاً على العنوان الأخير فهو في رأينا يعد قصة حقيقية وجميلة أيضاَ، فلماذا وضعتها الكاتبة تحت ذاك المسمى لا ندري؟، فهي تسرق عيدان الكبريت وتضبطها والدتها ثم تربطها وعندما يعود والدها يفك رباطها بعد أن تبوس التوبة، وهذه أفعال يحتاجها القصّ ومن الضروري وجودها، ونحن نعتقد أن النص الأدبي أقرب إلى الخاطرة من كل الأجناس الأخرى، إلا إذا اعتبرناه خلطة تحوي كل شيء.

تشرين

Nobles News